أحمد سيف حاشد
من طفولتي الأولى
(1)
حيرة
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب والمزدحم .. المحتدم بالصراع والغضب والجنون .. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات .. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان.
جبابرة وطغاة بنوا مجدهم وحياة رغيدة لهم على حساب كرامة الإنسان ودمه وجوعه ووجعه وأحلامه.
ضعفاء وبسطاء ومحرومون، مخدوعون ومبتلون بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.
الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة وممتلئة بالظلم والألم والجنون.
عالم لا زال محكوم في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه لا زالت للأقوى، وكثيرون ما زالوا يسفكون الدم من أجل الله أو من أجل السلطة أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.
كيف جئنا؟! سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه؟!
كم مليون صدفة كانت سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك ولا أمل في عالم ملؤه بالوهم والأكاذيب..
ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة.
المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومآلات الكون غامضة ومجهولة.
كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاء لما أتيت وما وجدت.. وينطبق هذه على التراتُبيات كلّها.. إلى كل الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!
وفي الحياة سباق مزحوم ومحموم، وليس كل ظافر في هذا السباق بالضرورة يكون محل سعادة ورضى صاحبه.
في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي واحد فقط من يلقِّح البويضة ويتخلق في رحم الأم وما عد ذلك يفنا ويموت. فأيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أمّن أدركه الموت والفناء؟!
يرى البعض أن الفوز بالحياة هو شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. فوزا بالألم والندم والوهم، وما نتصوره خسران يراه البعض تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.
من علِق وتخلَّق تسعة أشهر لماذا يخرج إلى واجهة الكون صارحا أو باكيا؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلان وجود أم هو رفض واحتجاج على هكذا وجود؟! هل هو فزع من العالم أم خوف من المجهول؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهة الكون فرحين أو مقهقهين أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولود من بني البشر لا يستهل حياته إلاّ بصرخة بكاء حادة؟! هل صرخة البكاء هذه هي تعبيراً عن رفض لقدر لم يختاره ولم يكن لإرادته فيه شأن؟!
بين صرخة الولادة وشهقة الموت عمر مثقل بالمعاناة وعالم من المتاعب والأحزان والأشياء والتفاصيل.
عندما تتعثر خطاك على الدوام، ويلحق السوء بحظك كلعنة لا تفارقك، وتخيب أمنيات حياتك، وتبطش بك الأقدار يميناً وشمالاً وتصير فريسة للحرمان والمتاعب.. هل تكفر بنعمة من كان سببا ومعجزة في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كل ما هو تعيس وخائب؟!
هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!
(2)
زواج أمي
تزوجت أمي مرتين قبل أبي ورزقت ببنت، والبنت في واقعنا الذكوري أنثى يلزمها دفع كلفة باهظة تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام وانتقاص من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصريتنا المقيتة إلى الكفن والقبر وتحت التراب!.
لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر بل وتمتد إلى تحت التراب؟!
لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم أو لم يصنعونها هم؟!
لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!!
لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا الحال ـ أن يتحملون خطيئة أمٌَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر أو ختام؟!
أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لا زالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى الساعة. عاشت طفولة بائسة وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد هي.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..
اسمها ليس على مسمى ولم تجد للهناء في حياتها وجوداً.. حتى أسماءنا مخدوعين بها، يختارونها لنا فنكتشف في آخر العمر أنها مجرد وهم على وهم وسراب على سراب طويل.
كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة وأرادت أن تكتفي بتربية ابنتها ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة حتى ترزق بولد .. قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك وأنها غداً ستتزوج وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام وما قد تحمله من مجهول ونوائب.
كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة وكلمته عليها فصل، أو على الأقل في أغلب الأحيان.
تزوجت أمي من أبي وكنت أنا الولد الغائب الذي تحدثوا عنه .. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها من قادم الأيام، وما قد تحمله من مجهول ونوائب.
(3)
بشارة الولادة
في صباح يوم الجمعة 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان 1383 هـ خرجت من بطن أمي إلى واجهة الكون أصرخ باكيا وكأن الحياة تلسع القادم إليها بلدغة ثعبان ومستقبل غامض ينتظره ألف مجهول..
فيما وجدتها عمتي إنها بشارة وسرور زفته لوالدي الذي كان ينتظر هذه البشارة بفارغ الصبر، ولن تكون بشارة إلا إذا كان المولود ذكرا، أما إذا كانت أنثى فهي الخيبة الصادمة، فكنت أنا المولود الذي أرادوه وانتظره الجميع.. أبي وأمي وأخوالي وكل الأهل.
خالي أخ أمي والملقب بـ (دعبل) كان شجاعا ومقداما ومغامراً .. فيما خالي الأكبر اسمه صالح .. كان متوسط القامة يميل إلى القصر، وبشرته تميل للسمرة .. كان كريما وودودا وطويل البال، ويقال عنه أنه كان ذكيا ويتميز بقدر من الدهاء.. كان لديه أيضا اهتمام في عالم التنجيم والكتب، وعندما ولدتُ أهتم لأمري وهو من سماني (أحمد) وتنبأ لي بمستقبل، ودوّن اسمي وتاريخ ميلادي وبرجي ومنزلتي في ظهر كتاب.
نفس هذا الكتاب الذي يرمي بالغيب وبشر أهلي بحظ سعيد ومستقبل عريض كاد يحمل يوما شرا لي وفاجعة لأهلي بعد سنين إلاّ أن خالي صالح كان أطول بالا من هذا الكتاب الذي يصيب مرة ويخيب ألف مرة ويدعي أنه يعرف كل تفاصيل أقدار الناس والزمان.
عدن
(1)
عدن مدينة التعايش مستقبل ملتحي.
ملاذي الأول عدن، وحبي الأول في عدن .. نصف حياتي الأجمل كان في عدن ونصف حزني مدفونا في حنايا عدن. عدن بضعة مني وأنا بضعة منها إلى يوم القيامة.
تشكَّل وعيي في عدن وتعليمي الأهم كان في عدن، ورزقنا الأول جاء من عدن، وهجرتنا الأولى والثانية كانت إلى عدن.. ولي في عدن ملاذ ووطن ولي فيها حبيبة لا تموت إلى أن أموت.
عدن الثغر الباسم و”الكفر الحلو” والإيمان المسالم..
عدن كانت تفيض بالتسامح والمحبة والتعايش.. فجاءها قوم تطرفوا حتى خنقوا فجرها القادم، وصادروا فسحتها وخياراتها بطيشهم المليء وتطرفهم الصفيق، وجاءها قوم آخر غارق بالتخلف أحالها من ثغر باسم إلى غنيمة مستباحة، ينهشونها كالذئاب.. قتلوا تسامحها الكبير، وحولوا إيمانها المسالم إلى تشدد يعشق القتل ويشرب الدم ويستبد على حرية الناس وخصوصياتهم، والتطفل على تفاصيل حياتهم اليومية..
تشدد ظلامي أراد أن يلف بظلمته الحالكة نور عدن، ونور العصر، ونور الله وجماله وسمواته العلى.
اليوم عدن يخنقها التطرف وتفتك فيها العنصرية وخطر يحدق في العيون ومستقبل ملتحي وندم بلا حدود.
(2)
أبي عامل .. مُفند ودابغ للجلود
أبي كان يعمل في عدن بشركة (البس)، يدبغ الجلود ويفنِّدها، وهي الحرفة التي أعطاها الجزء الأهم من زهرة عمره وريعان شبابه..
بسبب الملح والجلود والمواد الكيمائية المستخدمة في الدباغة أصيب بضيق النَفَس وسعال ليلي رافقه سنين طوال حتى آخر أيام حياته..
جزء من طفولتي الأولى التي أتذكر بعضها بصعوبة كان في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة البس..
بعد سنين من عمله بشركة البس جاء بنا من القرية لنكون معه وإلى جواره.
أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن وكان عمري يومها سنتين وبضعة شهور، وأختين توأم (نور وسامية) عمرهما أقل من عام..
وفي دار سعد سكنا منزلا صغيرا استأجره والدي ويتكون من غرفه وحمام ومطبخ وصالة.
(3)
مغالبة “الحصبة”
في عدن مرضت بالحصبة .. كان مرض الحصبة ينتشر ويفتك بالأطفال..
الحصبة فيروس انتقالي حاد ومعدي يصيب الأطفال، ويسبب لهم مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان.
كان مرض الحصبة أكثر الأمراض انتشارا في سن الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاع في درجة الحرارة مصحوب برشح وسعال ورمد وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم .. و رغم اكتشاف لقاح الحصبة في ستينات القرن الماضي إلا أنه لم يقوض هذا المرض و يصيره نادرا إلا في بداية التسعينات من القرن الماضي.
أول معركة خضتها في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال .. كان نذير موت يتهددني و يتربص بي بإصرار واشتهاء..
كل يوم يمُرُّ ولا زلت على قيد الحياة كان يعني لأبي وأمي معجزة، وكان بالنسبة لي بطولة ومأثرة..
غالبت المرض وقويت على المقاومة والصمود بفضل بعض النصائح التي أسدتها جارتنا لأمي، والتي كانت على بعض دراية بوسائل تخفف من وحشية وآثار هذا المرض .. وفي الأخير انتصرت على فيروس الموت وتعافيت واكتسبت مناعة منه لمدى الحياة.
(4)
سقم وهزال
وبعد شهور مرضت بمرض لا أعرفه .. أصابني هزال وفقدان شهية .. هزل جسمي إلى درجة جعلني أشبه بأطفال المجاعة بإفريقيا .. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراع مع الموت من أجل البقاء .. أمّا أن تغلب المرض أو يغلبك، الموت يحوم عليك ويتربص بك في كل يوم وساعة..
جارنا عبد الكريم فاضل كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات “ابنك سيموت ولن يعيش”. هذه العبارة التي بدت صادمة لأبي جعلته يذهب بي على الفور إلى مشفى في عدن غير أن الطبيب أخبره أن الأمل في أن أعيش ضعيف.
شار جارنا لوالدي أن يذهب بي إلى طبيب ماهر في لحج لربما وجد عنده بصيص أمل.
و في لحج قال الطبيب لوالدي بأن حالتي سيئة جداً، وأنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن استطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى” قرر لي وصفة علاج دون إبر..
استجاب جسمي للعلاج وأخذت حالتي تتحسن ببطء، بدأت أقبل على الطعام بنهم يزداد كل يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطل من اللحم في اليوم الواحد أتناوله كله لوحدي ولا أترك لأهلي شيئا منه يأكلونه. كانوا إذا أعطوني قطعة منه ما ألبث أن أعود أطلب أخرى حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.
وبعدها تعافيت بل وصرت مشاغباً وشقياً .. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها .. أكسر زير الماء .. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء .. اكسر الزجاج .. أرمي بأواني الطعام .. ارتكب كل الحماقات وأرمي كل ما تطاله يدي على ما تقع عليه عيني .. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في معظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأ البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي .. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر .. لم أكف عن الشقاوة والبكاء والصراخ.
(5)
بؤس وشقاوة
كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات بالعمل المضني من أجل الحياة وسد لقمة عيشنا المتواضعة وعيش أسرة أخرى كانت لازالت تقيم بالقرية وتنتظر ما يأتيها من والدي..
كانت الحياة صعبة وصراعنا كان هو من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به ونريد.
كانت أمي تطلب من أبي أن يغلق علينا الباب من الخارج خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها ويغلق الباب علينا من الخارج حتى يرجع من العمل.
كانت أمي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران لا تفتح نافذة ولا باب. أبي هو وحده من يفتح الباب ومن يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف وغسل الملابس والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..
ولكن لماذا أنا أيضا يتم حبسي ولا يُسمح لي أن أخرج للشارع لألعب مع الاطفال أو أطل عليهم من نافذة.. أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت.. أريد أرى الوجوه والناس والحركة وصخب الحياة..
كل ساعات النهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شق في نافذة ولا خرم مفتاح في باب..
أسمع بعض ما يحدث خارج البيت ولكنني لا أراه.. فضولي مقموعا بجدران من اسمنت وخشب من ساج ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..
أريد أن اعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصرر والقراطيس والأشياء الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..
أريد أن أرى كل التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كل شيء ضيق في البيت كصدري الضيق، وجمجمتي الصغيرة.. أشعر أنني أقضي أيامي في محبس من حديد؛ فكان طبيعيا أن أكون شقيا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه.
الموت يداهمنا
(1)
تساؤل
لماذا الموت يا إلهي؟ إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة فأنت على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات ولم يخلق الله الخلائق ولم تشهد الأكوان والعوالم حياة ولا موت؟! ربما لو حدث هذا لانعدم الحزن الذي يملئ هذا الوجود..
أكره الموت عندما يخطف منا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منا حبيبا أو عزيزا أو كريم ..
الموت رهيب جدا.. الموت سكونا موحشا.. عدما وفراغا يدوم.. الموت فراق للأبد ورحيل بلا نهاية.. الموت خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كل عزيز وحبيب فيما الموت عند الميت ربما شيء مختلف ومغاير.. الموت حالة ربما تتأخر ولكن مجيئها في حكم الأكيد.. كبار المسلَّمات ربما تكون محل ظن وشك، وأما الموت فحقيقة ويقين.. ناموس لا يقبل الشك ولا التفاوض.. ولكننا لا ندري بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل.
(2)
موت الأختين
أسرتنا في عدن كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم نور وسامية.. أسرة صغيرة وبسيطة تربص بها الموت حتى ظفر بالزهرتين..
جاء الموت على نحو غريب وغامض لا زلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين (نور، وسامية) وكدت أكون أنا الثالث.
أختي نور ماتت وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخ طافح وقوي، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ حتى يكاد ينقطع نفسها فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتكف عن الصراخ ويستمر هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة تصرخ ولا تستعيد نفَسها وماتت حالا.
أختي (سامية) عندما كان عمرها أكثر من عام تكرر معها نفس الحال والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش تصرخ مجددا وبصوت قارح فيتم حملها بسرعة وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..
وفي يوم صرخت فسارع أبي لحملها ولكن أنقطع نفَسها ولم تعد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم، قال البعض هراء : ماتت لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت “فرحة”.. وأي فرحة إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.
كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة بعد خمسين عاماً من طفولة باكرة.
(3)
فقدان موحش
لازلت أذكر سامية وهي مسجاة على الفراش.. كانت الرغبة تستبد بي لأعرف ماذا حدث.. كان الغموض عندي بكثافة مجرة مملوءة بالأسرار العصية على الفهم..
كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دم الغزال.. لا زال هذا اللون أثيرا لنفسي وإن كان يذكرني بفراق طويل.. لم أكن أدرك حينها إن الموت خطفها وغيبها للأبد.. لم استوعب أنها لم تعد بيننا وإنها لن تعود..
كنت ابحث عنها على الدوام وابكي وأقول لامي ابحثي عنها في مكان نومها، أريد أختي، أريد ألعب معها.. لم تحتمل أمي كلماتي الموجعة التي تنز دما وحرقة، كانت تحاول تبلع غصصها وتداري حسرتها البالغة فيفضحها انهمار دموعها، فتنفجر بالبكاء وأبكي معها دون أن أعرف السبب..
كرهت الموت من حينها غير أن أمي كانت تخفف من وجعي ووجعها وتقول إنها في السماء وإنها مرتاحة وسعيدة بين بنات الحور وإنها تأكل اللحم والتفاح وكل أنواع الفاكهة.. كل ما أنا محروم منه في الدنيا الفانية هي تأكله وتنعم به في الحياة الثانية..
أخبرتني أنني سألتقي بها يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟
من فرط تعلقي بأختي سامية جاءت مولودة لاحقا فأسموها سامية تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاصي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية الجديدة جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسمو والنبل الجميل.
(4)
كدت أموت
ماتت نور وسامية وكدت أكون ثالثهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غرة ويسارعان أبي أو أمي في حملي وما أن أعود للأرض حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام وأحياناً أقوم من نومي صارخا ويتكرر المشهد وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسهما أنني للحياة مفارق.
لماذا أصرخ ؟! لا زلت أذكر.. لا أستطيع أنسى ما كنت أشاهده .. ما زال المشهد عالقا بالذاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم.
كنت أشاهد ثعبان أبيض يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه ورأسه مربعا متناسق مع جسمه باستثناء أنه مميز بعينين مدورتين وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..
أشاهده بغته يخرج من القاع يجري فأصرخ بهلع كما كانت تصرخ (نور، سامية) صراخ قارح وناري يشق الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغته على نحو صادم في لحظة شرود وتيه.. صراخ ينم عن مشاهدة أمر صادم، مرعب وفضيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين. وعندما كانا يحملاني أبي أو أمي يختفي هذا الثعبان بالقاع، وعندما يطرحاني في الأرض أراه من جديد يخرج من الإسمنت ويزحف بسرعة، ويتكرر هذا المشهد ويتكرر هذا الصراخ .. أبي وأمي لا يرونه، أنا كنت الوحيد الذي أراه، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما أشاهده إن كان لما أشاهد هنالك من وجود.
في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر أنني كتبت اسم شيطان .. ولكن هذا التفسير غير مقنع ولا يستقيم لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. كم أخشى من ظُلمنا للشيطان وربما الشيطان بنا كان رءوف ورحيم.
بؤس .. وطفولة بطعم التمرد
(1)
العودة إلى القرية
بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت الشركة التي كان يعمل فيها والدي عن عدد من العمال وكان أبي واحداً منهم.. فقد أبي عمله في عدن.. لم يعد هنالك من مصدر دخل لنا.. ظروفنا أزادت سوءًا وانحدار.. لم يكن أمام أبي إلا أن يعود بنا إلى قريتنا التي يهرسها بؤسا وشقاء ومعاناة لا تنتهي..
في طريق مغادرتنا لعدن كنت أشاهد عساكر الإنجليز في النقاط والحواجز العسكرية.. كانوا يلبسون القميص الكاكي والسروال القصير.. الغريب أنهم كانوا يودعوننا بتعظيم سلام.. يضع العسكري يده على محيّاه ويحيِّنا بتحية تَكرِم وتليق.. يحيِّنا وهو بوضع الاستعداد والانتباه بتحية عسكرية مملوءة بالمهابة والتقدير..
كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحركون؟! هل يستمرون بهذه الهيئة ليل ونهار؟! كنت أتمنى أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تقلّنا وقت طويل أمام كل واحد منهم لأراهم كم يستمرون على (تعظيم سلام)، كنتُ أريد أن أملئ عيوني من كل واحد منهم ساعات طوال.. اليوم بدا لي أنهم يريدون بهذا الوداع الجميل أن يتركوا انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال.. وبين أمس واليوم عوالم وتحوّلات لم تكن تخطر ببال.
عدنا من عدن إلى قريتنا (شرار) مثقلين بالحزن، والفراق الطويل.. عدنا نمضغ بؤسنا كماضغ الملح والصديد.. عدنا وجراحنا عميقة وغائرة بالنفوس.. عدنا وقد نقصنا عن عدد مجيئنا اثنين “نور وسامية”، وكدت أكون ثالثهما.. مؤسف أن نعود وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنين.. عدنا ونحن نحمل حزنا ثقيلا وقليلا من المتاع.. عدنا وقد تركنا فيها ذكريات أليمة وقبرين صغيرين حصيلة غربة بدت لنا فادحة ومكلفة.
(2)
قريتي شرار
قرانا متناثرة حول الوديان وظهر الجبال.. قرانا متعبة مثل رجالها ونساءها وأطفالها.. لا ندري لماذا جدَّنا الأول جاء من أطراف الدنيا ـ يقال أنه جاء من حضرموت ـ إلى هذه المنطقة بالذات؟!! ليس في منطقتنا ما يدعي ويأسر!! لا زلنا نجهل هذا ولا ندري له سبب أو داعي.
قريتنا واحدة من تلك القرى.. قريتنا في وادي “شرار” تمضغ فقرها كل يوم وعلى مدار الليل والنهار.. كان الخبز أو العصيد و”الوزف” الوجبة الأساسية التي تبقينا على قيد الحياة.. نعم نحن نحمل لـ”الوزف” جميلاً ومعروفاً كبيراً لا ينكره إلى جاحد، ومدانين له بالبقاء والحياة..
(شرار) قُرى متعبة ووادي شقي يبحث عن مجد وسط الحزن والسياسة والخراب.. شرار مملوءا بالصراع والتمرد والفقر..
شرار كالشرق الذي يبحث عن شروق ولا زال الشروق عنه نائيا وبعيد.. لا أدري لماذا كان اسم الوادي (شرار)، ولكن حكاية تروى أنه عاثر الحظ وكثير القنوع.. حكايته تقول عندما قسَّم الله البساتين والحدائق على الوديان سأل (وادي شرار) عما إذا كان يريد بستان أو حديقة، فأجابه إجابة قنوعة: (إن زاد وإلا ما أشتيش) فلم يزد لوادي شرار حديقة أو بستان.
شرار كثير الصخر والحجر وقليل النعمة، وبهذا يفسرون بؤس هذا الوادي وافتقاره لبستان أو حديقة.. يبدو أن (شرار) القنوع الذي يرى البعض أنه خذل رجاءنا قبل مجيئنا لا زال قنوعا إلى اليوم، ولا زلنا نحن مسكونين بلعنة قناعته التي عشقناها ولم نترك عشقها حتى وإن طوانا الجوع وبراء عظمنا وسقم الجسد . لا زلنا بالقناعة نعتز ولم تجفل هي عنّا ولم تنتهِ وما زلنا مسكونين بالمثل: القناعة كنزا يدوم ولا يفنى.
(3)
عناد
كنت مغرماً بأكل التراب.. كان التراب بالنسبة لي أشهى من الأكل وأمتع.. وما أن تكتشف أمي الأمر فتسارع بضربي حتى قبل أن تخرج التراب من فمي، ولكن ما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل وببعض من عناد، ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب.
واقع مشوّه وموبوء لا يأتي إلا بما هو مشوِّه ومريض.. عُقدنا وعنادنا المدمر للذات وللآخر بدأ معنا من نعومة أظفارنا، وكبر معنا، وربما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر إن بلغناه.
التربية غير السوية في مجتمعنا تبدأ معنا من الحضانة ويستمر رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة حتى تبلغ الصميم، ويتعدى أذاها من الشخص إلى المجتمع..
إن أخطأت في البيت تُضرب وإن أخطأت في المدرسة تُضرب، بل إن الضرب هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، بل أن السياسة العقابية في تشريعاتنا المثقلة بالوجع والركام لا تقوم على أساس إصلاح الجاني وإعادة تأهيله ليندمج في المجتمع، بل تقوم على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.
كما إن العناد الذي نكتسبه أو الذي نتطبع فيه يمكن أن يتحول إلى قوة تدميرية تهلك المعاند ومن حوله وربما تمتد آثاره إلى المجتمع بل وأكثر..
من الأفيد بل والأروع أن نحول عنادنا إلى تحدي ينتج طاقه خلاقة كبيرة ومبدعة تثري العلم والمعرفة وما يخدم العالم خيراً وفضيلة ورخاء..
كثيرا من العلماء المخترعين والمكتشفين وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيه في خدمة الناس والبشرية فاكتسبوا العظمة والخلود فيما هناك كثير من مجرمي التاريخ وسفاحيه بسبب عنادهم وتصلب رأيهم أهلكوا أنفسهم وشعوبهم والعالم.
(4)
أكل التراب
كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم والذي كان يكبرني بعشرة أشهر، وصار التراب بيننا أكثر من عيش وملح.. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية ونقص مادة الحديد في الجسم أو هذا ما قرأته بعد خمسين عاماً.
تأكل التراب بسبب سوء التغذية ونقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، وتعاقب بالضرب لسبب خارج عن إرادتك، وربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد ولا تستفيد إلا مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد وتظل تكبر داخلك، وبأعماق نفسك، في الوعي وفي اللاوعي وتشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية تضر بنفسك وتضر بالآخرين، وتغيب عدالة الأرض عنك، وربما تتأخر عدالة السماء إلى يوم الحساب.
وفي الوقت الذي تضربني أمي لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني لأكل التراب..
كانت أمي تصطحبني معها وهي تزور قبر جدها “الشيخ حيى” وكان يزدان بغرفة وقبة مُهابة وملاحق، كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجدها، وتسرِّج بها ظلمة قبره وغرفته، كانت تشعر بفرحة غامرة وهي تفعل ذلك وتمد يدها في نافذة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتخرج بعض فتات وفراتيت التراب من كوة جدار القبر وتأكل منه قليلا وتعطيني قليلا لآكل..
كانت أمي تحثني وتشجعني على التهامه، لأنه من تراب جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال في منطقتنا فقيها وعالما وصاحب كرامات قبل حوالي ثلاثمائة سنة..
كانت أمي تعتقد أن أكل قليلا من التراب من قبر جدها يفيد بكل شيء ويحميني من كل شر.. ولكنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدته وتعودت عليه.. ولكن لم أرده لأن هيبة القبر وكرامات صاحبه بحسب روايات أمي وما تفيده من محامد جدها وتعتقده جعلني آكله ولو لم يعجبنِ طعمه لأن ثمة سر مهم ومفيد بهذا التراب كما كنت اعتقد وتعتقد أمي.
(5)
علاقة أمي بجدودها
علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة واعتقادها بهم راسخ وتليد، فهي تدعو الله وتستنجد به دون أن تنسى جدودها “الشيخ حيى” و”جنوب” و”الشيخ أحمد” ولديها ثقة إنهم يساعدونها وعندما تريد شيئاً تنطع لهم الشمع وتذبح لهم الذبائح إن كان الأمر يسمح وهنالك من خطب جلل.. وما زال هذا الاعتقاد الراسخ وهذه العلاقة الوطيدة بينها وبين جدودها قائم إلى اليوم.
أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام ويخبروها بأشياء تتحقق أو تقع في قادم الأيام كانت مفرحة أو فاجعة.. أذكر أنها قالت في إحدى المرات إن جدتها “جنوب ” جاءت تخبرها أنه سيحدث (أمر جلل) وتحقق ما قالته خلال أيام قليلة وكما وصفته دقة ومعنى.
عندما كنت معتصما ومضربا عن الطعام مع جرحى الثورة في عام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني ويقف معي وتدعو جدودها الأولياء أن يكونا معي في المحاذير وينجوني من المخاطر ويحضرون معي في كل نائبة أو ملمة حتى أنها كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية وتسبعها في الماء وتقرأ القرآن عليها وتنذرها للمساكين وتدّعي أن هذا الأمر كفيل بان يحفظني من شرور البشر التي تفوق أحيانا شرور الشياطين كما تظن وتعتقد.
أمي وبحسب روايتها عندما تضيق بها الدنيا أو يكون هناك أمر جلل أو شيء يؤذي مشاعرها على نحو حاد ومثير تشعر بشيء يتكور في داخلها ثم يكبر كالكرة وتظل تكبر حد الامتلاء، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها وترتعش ولا تهدأ ولا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ شحناتها بنطح الجدار مرات عدة وعلى نحو مخيف حتى تأخذ حقها من الجدار ضعفين.
في إحدى المرات منعتها وهي تنطح جدار من حجر وعلى نحو أخافني، ولم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها حتى نهايته يؤذيها إلى حد بعيد.. كانت تقول لي عندما منعتها بعتاب طافح (عثرتني.. عثرتني) وتبكي ثم مرضت عدة أيام.
ما زال نطح الجدار يحدث مع أمي إلى اليوم وعمرها يزيد على السبعين عام.. ولكن في الأيام الأخيرة عندما يحدث معها مثل هذا، صرنا نتوقع في المستقبل القريب وجود مشكلة أو شيء لا يسر.. نقرأه كإحساس بشيء سيء سيحدث عما قريب، وإن هذا الإحساس لا تستطيع أن تعبر عنه إلا بهذه الطريقة المأساوية.
مشاهد كثيرة ومتفرقة شاهدتها فيها وهي تنطح الجدار.. تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم ولم أفهمه غير أنه غير معتاد، بل أنه خارقا للعادة.
هنالك كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله وتغافل عنه.. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة.. أنا وخالتي زوجة أبي الأخرى كنا إذا حدث أن أنملت رجل أحد منا يصل أخي علي من صنعاء أو يهل ضيف علينا، وإذا نملت يد أحدانا نستلم نقودا أو شيئا يفرحنا أو نصافح كريما أو ضيف يبهجنا.. كان لنا حدس وحواس يقظة لم يعد منها اليوم غير أطلال وبقايا.
(6)
واطل أبي من بين الزحام
فوضى وكركبة أوراق وقصاصات وجرائد وكتب تملأ المكان؛ تراكمت لسنوات طوال، إن أرت البحث عن مذكرة أو ذكرى فحالك كالباحث عن إبرة في كومة قش.
منذ أكثر من ست سنوات لم أنقل إلى شقة إيجار جديدة مرغما على تحمل إيجار مضاعف بسبب هذه الكركبة التي أشعر أنها تحتاج إلى أشهر لنقلها.
غير أن أكثر ما يضايقني فيها هي وثائق ومخلّفات مجلس النواب.. تشعرني بالضيق ونفاذ الصبر وتثير في نفسي قرف وعاصفة من غثيان، وعند النوم تجلب لي إزعاج وكوابيس تنزع قلبي وتقذفه بعيدا عني، وإن ضجرت مني سلمتني لأرقٍ ولعنات لا تخيب.
مجلس النواب الذي صلب الشعب أكثر من عشر سنين فقر وفساد وتبعية، تزاحمني مخلفاته حتى في غرفة نومي.. تتزاحم تحت سرير النوم، وفي النوافذ، والأرفف، وعلى الدواليب، ولم يبق في المكان متسع أو متنفس إلا واكتظت فيه.
كنت كلما أعود إلى البيت من هذا المجلس حاملا بعضاً منه تثور زوجتي غضبا ونتشاجر ويتحول يومنا إلى “يوم حمار”.
لطرد الكوابيس عند النوم.. قرأت المعوذتين والفاتحة.. قرأت ياسين.. وضعت تحت رأسي قطعة من حديد.. شربت الماء، وجربت النوم طوى؛ ولكن لا فائدة.. أعيتني الحيل وباءت كلها بالفشل، ولم تنفع مع هذه الكوابيس ولعناتها كل النصائح والهرطقات.
حاولت أن أعيد ترتيب وتنظيم تلك الفوضى المتراكمة، وفرز ما يجب أن يبقى وما يجب أن يذهب إلى مقلب القمامة، غير أنني وأثناء المحاولة كنت قد وجدت أمراً قادني إلى بقايا ماض مُهمل وحزن مختبئ..
طل أبي من صورة مهملة في زحمة حياة لا تبقي مكاناً للصور والذكريات.. وجدتها فاستعدت شريط حياة مضت كمن دنا أجله وأقبل على رحيل دائم لا ينتهي.. عدت إلى الذكريات بحلوها ومُرَّها نابضة بالحياة والحنين.. وجدتها جميلة ومؤثرة حتى وإن كانت تحمل قليلا من الفرح وكثيرا من المرارات والوجع والحرمان..
كان أبي قاسياً معي.. لكنه مات وكل منا متسامح وراض عن الآخر، وبين الحياة والموت حكايات، وآماد من الحزن والحنين والتفاصيل..
صادف هذا الحنين حالة أعيشها أشعر أنها لا زالت ملتبسة وغامضة؛ لا أدري عما إذا كانت حالة يأس وانكفاء على الذات تسير نحو غربة موحشة؟! أم هي حالة تمرد واحتجاج على أوضاع ما زالت عصية على البوح؟! أم هي استراحة محارب أثقلته الجراح والحراب في حرب ضروس؟! وربما هي حالة مخاض من مخاضات الحاضر تليها ولادة وبشارة، وخيارات متطلعة رغم ضيق مثل هذه الخيارات في بلد مثل اليمن، بلد مثقلة بالموت والغياب والتشظي..
(7)
الموت.. شكوك وأسئلة
وفي زحام الحنين تنتابني مشاعر غامضة ومتناقضة أحيانا، وتحاصرني الشكوك وتداهمني الأسئلة..
ابغض الموت الذي يخطف منّا من نحب.. الموت الذي يثقل كواهلنا بالحزن.. الموت الذي يمضي ويحكم بالفراق الذي لا يقبل التماس أو رجاء.. فراق لا لقاء بعده ولا معجزة.
وتجوس في خاطري الظنون والافتراضات العصية.. من يدري ربما الموت منحة لو عرفها المرء منّا ما كرهها بل وربما من أجلها سعى.
هذا الافتراض يعني إن الموت يقطع بضربة سيف حاسمة آلامنا وأوجاعنا وشقاءنا ومآسينا الدامية.. لا ضجر لميت ولا كآبة.. لا تعاسة ولا قهر ولا عذاب.. ربما الموت هو العدم الذي لا نجد فيه ظلم أو ضيم أو وهم أو ندم.
الموت هو السر أو اللغز الذي لم يجد له اليقين طريقا ليكشف سره وطلاسمه.. الموت يمر على الجميع، لا يدركه الراحل منّا بل هو عصيا على فهم الجميع.
ولكن السؤال ليس شيطانا، ولا قرن شيطان.. السؤال بوابة للعلم والمعرفة.. والشك ليس غواية؛ فكم من شك انتهي بحقيقة ويقين.. ولكن هل الموت عصيا على الشك والأسئلة؟! السؤال في وطني المستلب مغامرة.
ماذا كنتُ قبل ألف عام؟! وكيف سأكون بعد ألف عام أخرى؟! هكذا ربما أُتبع السؤال جواب بالعدم.. وأخيلة التيه عصية على الخيال.. ربما الموت هو العدم أو حال مقارب منه أو يشبهه..
ومن يدري ربما الموت شيء آخر يختلف.. وفي الموت عقائد ومذاهب وفلسفات، فلم يمت أحد من بني البشر وعاد ليخبرنا باليقين عمّا حدث، ويكشف لنا سر الموت ولغزه وغموضه.
لا أدري اليوم بأي حال أنت يا أبي.. هل أنت في الجنة أم في النار أم في حكم العدم أم بحال يختلف! ومع صورة أبي التي وجدتها بين القصاصات والورق حملتني الذكريات إلى الطفولة والصغر؛ تذكرت الشقاء والمرض والتعب.
(8)
معاناة منذ الصغر ..
رعيت الأغنام وكنست الدار وحملت روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس والدخان أنقطع النَفَس وأصبت بالربو وكدت أفارق الحياة مرتين.
كانت أمي تدعو الرب والأولياء الصالحين وقد أصابها الجزع والفزع، وكان أبي ينتابه القلق المكتوم والمكابر، وكنت أنا أشعر بالهلع وأنني لهذه الحياة مفارق إن لم تحدث معجزة، ويتدخل الرب والأولياء الصالحين.
في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.
تذكرت معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية وأنا أدرس في القسم الداخلي.. تذكرت قسوة والدي التي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن وإطلاق الرصاص..
تمردت على ظلم سطوة السلطة الأبوية المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم كنت أشعر أنه يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل ولم أعبء بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.
رفضت الانتقام، وحاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة الجريئة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.
كان قد بلغ شعوري بالظلم حد المساواة بين جحيم الحياة وحياة (جهنم) .. هكذا بدا لي الأمر سيان لا يختلف.. كان أبي يضربني كل يوم مرات ومرات، ولو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات فهو يوم عيد لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم يستحق الاحتفاء والاحتفال.
كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.
ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح، والدفاع عن الضحايا ولو كلفني هذا حياتي مرتين..
(9)
الصلاة والفاتحة
عشت الواقع بكل مراراته وقسوته.. كنت أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا تطاق.. رفضت أن أعتاد الأمر أو أتصالح معه، وكنت أعبر عن رفضي بحالات تمرد كثيرة بعضها كان عابراً للموت والمجهول أو يكاد يكون الحال كذلك في بعض الأحيان..
أهداني أبي كتيب حول تعلم الوضوء والصلاة، اسمه “سفينة النجاة” سعادتي بهذا الكتيِّب كانت غامرة وقلبي بهذه الهدية صار صرة فرح يرقص ويطير.
وفي غمرة هذه السعادة كنت أردد أنشودة :
“أنا طفل بطل شاطر وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر وأدعو الله يهديني”
ولكن هذه السعادة سرعان ما انقضت و تبدل الحال إلى ضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..
“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث المنسوب إلى النبي محمد أشقاني ونال مني الكثير حتى أنني وإلى اليوم وقد تجاوزت الواحد والخمسين عام لم أحسن ما ضربت من أجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير.
خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة. ضُربت من أجلها، وكنت عند قراءتها عجولاً وأنسي تشكيلها حتى خلت أن حفظها أمراً أكثر من مستحيل، واعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي بسبب أخطائي في القراءة أو هكذا فهمتُ من والدي الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في عدن.
(10)
حسرة وحيره وحب
كانت الحسرة تبتلعني وأنا أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون فيما أنا الممنوع من أي لعب أو لهو.. كنت أغبطهم وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم ويفيضون عليهم بالمحبة والرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي وأختنق بالغصص.
كنت أسأل ربي لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقني هذا الرب في مكان آخر من الكون وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ (المهم أمي تكون معي)..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين؟!.
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفى سببه” وكانت فلسفة أبي في التربية الضرب “يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان يعتقد أنها تربية سوية ومجربة، وسبق تجريبها مع أخي الأكبر علي وأتت أُكلها بما يروم ويرتجيه.
أنا وأبي – ربما – كل منا يقرأ الأمور بطريقته وكل منا يرى الحق معه.. لم أفكر بأي ردة فعل عليه أو تسجيل بطولة، بل التمست له ألف عذر وعذر.
إن الواقع مر والاستلاب فاحش والتنشئة مشوَّهة والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
رغم كل شيء كنت أحب أبي وأجزع إن مرض أو هدده الموت لأي سبب .. كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل وأنا صغيرا لا أقوى على حمله ولا على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي رغم كل ما يفعله بي من ضرب وقمع وحصار.
(11)
أسئلة تتناسل كالضوء
كنت أمعن التساؤل في المفارقات بتلقائية، وأتمرد على المألوف بعناد، وأثور بالأسئلة عن المسكوت عنه دون أن أعلم أنني أثور..
كنت أتخيل الله بحسب الحال من غضب وفرح واستراحه وسعادة.. كنت أتخيل الله يراني في كل حال حتى عند قضاء الحاجة..
كنت أسأل عن الله وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه.. ثم تتغير هذه الصورة وأنا أتخيل الله وهو يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.
كنت أتساءل بتلقائية وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي ولا يجد له جواب..
كانت تبدو الأسئلة بلهاء وساذجة، وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي وهو مصعوق بالخوف والهلع .
كانت الأسئلة كبيرة وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل الصغيرة التي لا تأتي على بال الكبار، ولكن كان بعضها يلقم أمي عجزا بحجم جبل لا حجر، فتسارع بالتهديد المهول والوعيد المرعب وقمع السؤال..
وإجمالا بصيغة أو بأخرى كان مؤدى الأسئلة إلى الله كيف هو وكيف أوجد نفسه وكيف كان الحال قبله؟!
كنت أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
كنت عندما أرى وجهي في المرآة أرى قبحي في جحوظ عيناي فأسأل أمي: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساويني بأقراني؟! وكان الجواب قد تلقته من أبي أنني أشبه جدي “هاشم” في عيوني..
كنت أسأل نفسي: عندما أكبر هل سترضى بي من أحبها تتزوجني وكل هذه البشاعة التي خلقها الله في عيوني؟!
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وهو ظالم ومحتال وشرير؟!
كنت أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد؟!
لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا والتي كانت في لجة الليل تصرخ وتستغيث؟!
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور.
كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ولماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
هل الموت أعور أم هو أعمى؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي تفتك بأطفال لا زالوا بعمر الزهور؟!
طبعا بعض الأسئلة لم تكن بتلك الصيغة التي أكتبها الآن بل كانت مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره اليوم وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر وتتناسل كالضوء، يواجهها قمع وتعنيف وغياب جواب أو جواب خطاء أو جواب أبلعه بصعوبة.
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة ولم أجد لها من جوابا كاف وشاف، وكنت أسخط ما يستسهل الموت ويهدر الحياة وينتج العنف والقسوة ويسوّغ الظلم ويبرره.
(12)
خروف العيد
خروف العيد الذي ربيته واعتنيت به وعشت معه يوما بيوم وصار رفيقاً حميما لماذا يذبحونه؟!
كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة أقرانه..
شاهدتهم وهم يكبوّه ويرغموه على السير عنوة وكأنه يدرك أنه ذاهب للسلخ.. كنت أشاهده مملوءا بالفزع والخوف.. عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين..
كنت أشاهدهم يقدمون له الماء ليشرب قبل الذبح وهو يرفض وكأنه يحتج على أقدار ونواميس هذا الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت أتمزق من الألم والحزن وهو يُذبح، ثم ألوذ بالهرب مسكونا بالرفض وعدم الرضا أن تكون الحياة بشعة على هذا النحو.
كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤؤس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه..
ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين..
ما كنت أدري أن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيغتصب وأحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..
ما كنت أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق وستغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من ثلاثة ألف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وإن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون ، ويُعاث بالأرض كل هذا الفساد القادم من الناس لا من الشياطين..
ما كنت أظن أنني سأعيش إلى أن أرى داعش والنصرة والقاعدة وأنصار الشريعة ترتكب كل هذا الموت والدمار والخراب باسم الله والجنة والحور العين.
(13)
فقر وبؤس
سكان أريافنا فقراء، شبه معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.
جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والضما؛ وجذور السدر والعوسج و”العسق” تشق طريق صبور في الصخر والجبل.
الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم “تخيب ولا تصيب”، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد.
الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر، النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..
كان الجوع يعصر البطون وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسؤ التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور ..
في مناطقنا كانت تجتمع علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.
كانت أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في العام، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، يرمون عصفورين بحجر واحدة، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.
في أريافنا، كان الصراع من أجل الحياة مرير؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما “النادر فلا حكم له”.
كان أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن مرتين في العام؛ إن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فكنت لا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي وبلغ السل مخ العظام..
(14)
عيد غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..
عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..
في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..
(15)
في يوم العيد
سبب صغير بحجم حبة خردل كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..
عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..
عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظنه.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..
إذا ما داعاني لأمر وتونيت فقط في إجابته تجد وكأن الجن تلبسوه وركب فوق رأسه ألف عفريت..
حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..
تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..
هربت من سطوته مأئة متر فيما هو يحاول قتلي بالرصاص وتداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الأسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..
العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص!
غير أن الأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وألوذ بهرب سريع..
هربت والذعر يضاعف سرعتي، كتب الله نجاتي، كما كتب أيضا مزيدا من الخيبات والعذاب والأحداث الجسام.
(16)
هروب وعودة
هربت إلى دار “الشناغب”، دار جدي ـ والد أمي ـ الذي يبعد عن بيت أبي بحدود خمسة كيلو مترات، يقع في منطقة محاذية لحدود دولة الجنوب.. جدي رجل فاضل، مسالم، طيب القلب، نقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته في قراءة القرآن، كان تقيا، ورعا، محبا، لا يحمل ضغينة، لا يضمر شرا، ولا يكترث ولا يعر بالا للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقا ثمنا لأفعال الساسة.
أقبل أبي بعد سويعات، رأيته من دار جدي دون أن يران، رأيته يمتطي حماره الأبيض، كان حمار أبي يشبه فرسا أو حصانا كريما، رأيت بندقية أبي مسطوحا أمامه، يبدو مستعدا لاستخدامها في أول وهلة يراني بها، رأيت في مَقدَمته شرا وشررا ونارا، خرجت مذعورا من الدار إلى الجبل في الاتجاه المعاكس لمقدمه متجها نحو حدود دولة الجنوب.. هنالك دولة ونظام لعله يتولَّى حمايتي ولجم حماقة أبي.
خالتي أخت أمي أبلغت والدي أنني خرجت من الدار وهربت؛ كانت خالتي صارمة وحازمة، تجيد الاستبسال، تجيد أيضا إشعال الحرائق. أدرك أبي وجهتي واستطاع الإسراع إلى مكان يحول دون وصولي إلى الحدود، وبعد طول تفاوض مع خالتي ورجال خيريين من عابري السبيل، التزم أبي بألا يؤذينني مقابل أن أعود إلى بيته؛ طمئنني الجميع أن الأحوال على ما يرام، لن يحدث لي أي مكروه؛ والدي تعهد ألا يلحق بي أذى أو انتقام، نزلت من الجبل، وعاد أبي وهو يبلع غيظه شاعراً بعدم الرضا لأنه لم يشبع حماقته، لم يشفِ غليله..
عدت بموكب يحيطني، كانت بعض النسوة وأختي من أمي إلى جواري يرافقن عودتي وخمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي، بدأت مع السير تضيق، تضيق.. وعندما بلغنا منطقة تسمى بـ: “سوق الخميس”، لم يحتمل أبي أن أسجل عليه ما بدا له انتصاراً، استفزه منظري وساورته الريبة بأنني أُشمت به وأنال من سلطته وسلطانه، لم يحتمل ما جاس في صدره، ثارت حماقته، تمتم بالسباب وصوب بندقيته بانفعال نحوي، حمتني النسوة بأجسادهن؛ تعالى الصياح والذعر، تدخل المارة وكل من كان على مقربة منا؛ انتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهدا آخر للناس بألا يُلحق بي سوءاً أو ضررا، وبر هذه المرة بوعده ولكن على كره ومرارة ومضض..
عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وعشيرتها، عدت لبيت أخي وقضيت فيها بضعة أيام قبل أن أعود إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشـد الندم على ما حدث وعلى تركها لي أياماً كنت خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي.
(17)
خذلني القدر بعد مائة صلاة
الآباء يحنون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف ويحيطونهم بالرعاية.. لا يردون لهم رجاء أو طلب إلا ما استحال وتعذر.. أبي الوحيد الذي من بين ألف طلب لا يستجيب لي بنصف طلب، لا رجاء يجدي معه ولا توسل.. أبي لا يتجلى ولا يرتخي طبعه حتى في يوم العيد.. أبي صعب المراس كالفولاذ وقلبه من صوان أو هكذا أعتقد.
الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد والأعراس والعزاء.. أبي لا يمانع فقط بل ومستعد أن يرتكب أي حماقة إن فعلتها عنوة أو تجاوزا..
“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده” أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام ويسردوها بتباه وكأنهم ارتادوا كوكب آخر أو زاروا سطح القمر..
عندما يسردون الحكايات والتفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب..
في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجا وفرحاً..
كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة التي لا تتكرر إلاّ مرة واحدة في العام.. البيارق وألوانها الفاقعة تخطف النظر، وتولد البهجة في النفوس وتعطي المناسبة تميزا وجلالة قدر..
الكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال.. المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها وتحضر دهشتها وتفاصيلها.
من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته وتأجل من عام إلى عام.
ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين.
أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع ولكنها أخفقت، وفشلت فشلا مريرا في استرضاء أبي وانتزاع موافقته، فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد ويتصلب موقفه يحتاج قضاء وقدر وأكثر..
(18)
محاولة انتحار
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخظر، ولكنه كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال.. وظللت على وثاقي أكثر من ساعات انتهى فيها كل شيء وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني.
صعدت إلى حجرة والدي ووجدت السلاح في متناول يدي. أخذت بندقيته الآلية وعمرتها وتمددت وضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني.
ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة. وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراق. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضميته بحرارة مفارق. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس.
شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.
غالبتُ دموعي ولكنها كانت تنهمر سخينة. رأيتها تشتمَّني بلهفة وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها. ذهبت لأسرق لها الطحين وأصب عليه الماء وأقدمه لها كحساء وداع أخير. كنت اختلس لها كل يوم القليل من الطحين وأصب عليه الماء لتشرب وتستمتع وتستريح، ولكن القدر المختلس في الوداع الأخير تضاعف ثلاثة على ما هو معتاد.. لم أعد أخشى انكشاف الأمر لأن القادم سيكون جلل وسيجعل الجميع لا يفكر بذرة طحين. إنه حساء العمر الذي لن يتكرر معها ولن يعاد. ودعتها بألف قبلة بدت لي أنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها رأيتها ممعنة بالنظر نحوي وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل ولا أرحل.
تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. أودع كل شيء، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل. كنت أتفرس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمي.
تذكرت أمي وحب أمي.. أمي التي ضحت بأشياء كثيرة من أجلي.. تشربت ألف عذاب وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء. كنت أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها.
لم أكن في تلك اللحظة أتخيل أن ثمة شيء يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمي هو من غلبني، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمي. تذكرت وهي تقول لي: “إن حدث لك مكروه سأموت كمدا وقهراً”.
لا أستطيع أن أتخيل أمي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمي. كنت أتصور أن مشهدا كهذا سيكون صادماً وصاعقاً وفاجعاً للإنسان الوحيد الذي أهتم له؛ مشهد لا استطيع تخيُّله. مشهد لن يحس بمدى فاجعته غير أمي.
بسبب أمي وحبها وأخواتي أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أخف ضرراً وأقل كلفة.
(19)
بديلا عن الانتحار
أبي ذهب “للصراب”، وأمي ذهبت لتجلب الماء من بئر قريبة، وأخوتي في مكان قريب.
نزلت من الحجرة إلى الديوان، تموضعت فيه ووضعت أصبعي على الزناد و”هسترت” وأفرغت ما في البندقية من رصاص. لم أكن أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل. لا أدري كيف نجوت وكيف وجدت للمستحيل طريقاً!
لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من الخارج ويسمع لعلعة الرصاص يعتقد أن ثمة زلزال صغير قد حل.
صارت الجدران مخرّمة كوجوه عبث بها الجدري. فيما كانت رائحة البارود نفاذة تملأ المكان.
النسوة والرجال والأطفال يهرعون إلى الدار، وأمي تهرع وتتصرف كمجنونة، تصرخ وتبكي وتنوح؛ بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة، تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بمكان مظلم مملوء بحزم الزرع اليابس في الدار. أما أبي فقد هرع لينتقم مني أشد انتقام لكنه لم يجدني.
مكثت أياماً في مخبئي السري لا تواسيني غير أمي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من ألف مشكلة.
مللت مخبئي وملني هو الآخر. طلبت من أمي أن تترك لي فسحة بين أخوتي النيام لأنام بينهم ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي. ولكن أنكشف أمري بعد ساعة من زمن.
مر أبي على أخوتي النيام بحدود الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بالنوم. أنا الوحيد بينهم من كنت متوجساً ويقضاً أسمع دبيب النمل. سمعته يعد أخوتي ويقول لأمي هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثي على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وكان عددنا ستة، وما أن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض، فانقَّضت أمي على أبي كذئبه وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين، وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها.. يمزق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيب أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والفزع.
استفدت من لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. قفزت من فوق الدار. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة وربما مادة الإدرينالين التي تفرزها الغدد الكضرية في الجسم في مثل هكذا حالة تجنبنا مما قد يلحق بنا من ضرر محتمل.
(20)
ما أجمل الفقراء..
هربت إلى مكان قريب. ثم تسللت إلى مقبرة صغيرة في عرض الجبل”إجت الجفيف”، شعرت بالوحشة ولم اهدأ ولم يأتني نوم ولم اطمئن. كنت أتوجس أن يخرج الأموات من قبورهم. اسمع حكايات كثيرة عن حياة الأموات في قبورهم. أردت أن أجد مكانا أكثر أماناً حتى إذا ما داهمني سبع أو ضبع مفترس أجد من يسارع في نجدتي. لقد سمعت عن رجال كبار أكلتهم الضباع والسباع ولم يبقَ منهم سوى بقايا من عظام وأطراف.
لجأت إلى مكان قريب من منزل شخص كان يطحنه الفقر، شخص اسمه ثابت صالح. كان يكدح من الصباح إلى المساء بإيجار قليل. كان يحرث ويحمل الحجار على ظهره طوال النهار عندما يبني الناس بيوتهم. كان بيته متواضعاً جدا ولكن قلبه كان أكبر من قصر ملك وأخلاقه عظيمةً جداً.
سمع “ثابت” خطواتي في الجبل، والليل في ريفنا له أذان.. سمع حصى تتساقط بسب تسلقي بعض الجدران. ونتوءات الجبل أيقن أن هناك أمرا ما. وجه الضوء نحو الصوت وبدأ ينادي من هناك؟! كرر الأمر مرتين وثلاث. أزداد يقينا بوجود شيء يستدعي الاهتمام.
طلع إلى المكان الذي كنت فيه. وجدني وعرفني وألح عليّ أن أنزل لأبيت عند أسرته. نزلت معه. رحبت بي زوجته وكانت صديقة أمي. لم تصدق أنني من وجده زوجها في الجبل. رحبت بي ترحيب الأم المحب. أكرمتني وأشعرتني أن لدي أب حنون وأم ثانية. سألتني عما حدث في بيتنا ولماذا كان كل ذاك الصراخ الذي سمعوه في بيتنا.
حكيت لها ما حدث. اغرورقت عيناها بالدموع. شعرت بعاطفة جارفة عندهم وحب كبير. ما أجملكم أيها الفقراء. قلوبكم بيضاء نقية دافقة بالحب والطيبة والحنان والمعروف.
وفي اليوم الثاني زفَّت زوجة ثابت الخبر لأمي المريضة وطمأنتها، وبعد ثلاثة أيام عدت للمنزل بعد مفاوضات بدت صعبة لكنها تمت على خير.
عدت إلى المنزل وكان أبي يشكو لأخي الأكبر ـ من أبي ـ “علي” والذي كان مسافراً عندما حدث ما حدث. سمعت أبي وهو يقول له”: شوف أخوك أيش أشتغل”. وكان يريه جدران الديوان وما لحق به من ضرر بسبب الرصاص. ومن يومها أخذني أخي إلى بيته في القرية عند خالتي التي أغرقتني بحنانها وعطفها.
تعذيب وتعليم
(1)
أستاذ وخيزران
بدأت دراستي الأولى بالقرية (شرار) في القبيطة بمدرسة (الوحدة) .. بدأت هذه المدرسة بمدرِّس واحد فقط وهو الأستاذ علي أحمد سعد، من مواليد الحبشة لأب يمني جاء إلى القرية ليدرس أبناءها القراءة والكتابة والحساب .. جاء ليقدم شيئا من المعرفة الأساس لأبنائها المحرومين من التعليم وذلك بمقابل نقدي متواضع ومقدور عليه من قبل الآباء.. كان مدرساً ممتازاً وصارماً ومهتماً، ولكنه أيضا قاس في تعامله مع تلاميذه لمجرد أدنى تقصير أو إهمال.
ابتدأت مدرسة الوحدة بمسجد قروي متواضع وحُجرة متهالكة، تلاه بناء غرفة للإدارة، ثم صارت أربعة فصول.. تم بناء فصولها الأربعة اللاحقة على مقبرة قديمة لا نعرف إلى أي زمن تعود.. بدأ البناء فيها عندما غلب فتوى جواز البناء على فتوى منع البناء على المقبرة.. درس بعضنا فوق سطح المسجد وبعضنا تحت الشجر.. مدرسة الوحدة هي مدرستي الأولى التي درست بها إلى الصف الرابع.
كانت عصا الخيزران التي على ما يبدو أن (الاستاذ) علي أحمد سعد قد أحضرها معه من الحبشة لعقاب تلاميذه هي الوسيلة الأكثر استخداما في التربية والتعليم من خلال إنزال عقوباته على تلاميذه عند الإهمال أو التقصير أو التأخر عن طابور الصباح.. (الفلكة) واحدة من بين عقوباته الشديدة التي ينزلها على بعض تلاميذه، وهي الجلد على قاع القدمين والتي تربو أحيانا عن العشرين جلده، والأسوأ أن الجلد كان عنيفا لأطفال مثلنا حتى يبدو في بعض الأحيان أن ما يفعله هو انتقاما حاقدا وليس ما هو دون ذلك.
من أجل تنفيذ عقوبة الفلكة بحق تلميذ مقصر كان يحتاج إلى أربعة من أقرانه من ذوي الأجسام الغليظة لمساعدته في تنفيذ عقوبته، يمدونه على الأرض ويمسك اثنين منهم بيديه وصدره ومثلهم يرفعون قدميه ويمنعونه من الحركة ليتولى الأستاذ الضرب بالخيزران بقوة على قاع القدمين المضمومتين قبالته.
ومن عقوباته الشائعة التي يُكثر من استخدامها جلد بطن الكف بالخيزران بشكل متوال يصل فيها عدد الجلدات أحيانا إلى عشر لكل كف.. كنّا أحيانا نجد أنفسنا لا نقوى على مد اليد جراء شدة الألم الناتج عن هذا الضرب المُبرح.. كنا نحس أن أكفنا قد أدركها الشلل وهو يهوي عليها بالخيزران بقسوة دون رحمة أو مراعاة لألم لاسع يصل شرره أحيانا للجمجمة..
في أيام البرد يشتد هذا الحال وطأة ونكاية.. كنَّا نحس عقب ما ينتهي من تنفيذ عقوبته أن الدم يكاد يهر من الكفين.. كنا نرى أكفنا وهي تكاد أن تنبجس دماً.. كنا نشعر أننا لم نعد نقوى على حمل أيدينا فضلا عن الأكف بعد أن ينتهي من تنفيذ العقاب.
ومن عقوباته الجسدية الأقل وطأة هي إجبار التلميذ على أن يقف على ساق واحد أو الضغط على الإذن بثلاث من أصابعه بعد أن يضع حصية تحت إحدى الأصابع ليضغط بها على شحمة الإذن بينما يضغط بالأصبعين الأخريين على الجهة المقابلة ليزيد من حدة التنكيل والألم.. الأمر العجيب هو أن هذه القسوة المفرطة في العقاب لم تكن لتلاقي تحفظا أو اعتراضا من أولياء أمور التلاميذ، بل ربما يُسعد بعضهم!
(2)
ورطة تمرد
كنت على الدوام أشعر بقلق ورعب شديد من أساليب العقاب تلك.. كنت أحس أنها قاسية ومنفرة وغير إنسانية مؤلمة للجسد والروح!
في إحدى الأيام تأخرت عن طابور الصباح، وخشية من العقوبة ذهبت إلى حجرة مهجور فوق اصطبل بقرة جارنا مانع سعيد بدلاً من أن أذهب إلى المدرسة.. كانت بمثابة نُزُل مخصص لاستقبال الغرباء عند اللزوم والذين يقضون فيها يوما واحدا أو يومين إن طال المقام فيما كانت أغلب الأحيان تظل فارغة الأسابيع دون نزيل أو أنيس.
ولكي لا أتعرض للعقاب في اليوم التالي نظراً لتغيبي عن حضور اليوم السابق اضطررت لتكرار خطئي، ذهبتُ إلى نفس الحُجرة، وتكرر الأمر في اليوم الثالث والرابع، شعرت أن ورطتي تتعاظم وتتسع، فكلّما زاد تغيُّبي كلما اعترتني خشية أكبر من عقوبة أشد إيلاماً حتى تبدت لي في اليوم الرابع أنها ستفوق التوقع والخيال، وبالتالي أحسست ألا حيله سوى المجابهة إذا ما أنكشف أمري.
قرابة ست ساعات يوميا أقضيها في تلك الحُجرة المهجورة، مملة ورتيبة إلى أقصى الحدود، لكنها أقل وطأة من وجهة نظري من عقاب يفوق الاحتمال أشعر أنه نازل لا محالة.. كنت أحاول أن أخفف من وطأة رتابة تلك الساعات بالنظر من نافذة الغرفة إلى الفضاء المقابل .. الوادي والذاهبين والآيبين فيه، وكلما سمعت صوت في الجوار انتفض مرتاباً لأرقب من شقوق الباب ماذا يُدبر بالخارج وكلي توجس وقلق أحياناً، وفضول وشغف في أحايين أخرى.
في اليوم الخامس انكشف أمري وفضحني السؤال، حيث سمعت (الأستاذ) يسأل والدي عن سبب غيابي. فأجابه والدي أنني أذهب كل يوم للمدرسة، فهرعت إلى المدرسة وأدركت حينها أن الفأس قد أصاب الرأس وأن أمري انكشف، ولابد أن أستعد لدفع ثمن باهض ودفعة واحدة.
(3)
تعذيب في المدرسة
فور وصول (الأستاذ) للمدرسة استدعاني للحضور أمامه، رأيته يستعرض ويحوم ويهز الخيزران في وجهي لكأنما يشحذ سيفه مستعداً للمبارزة والقتال بعد أن ظفر بخصم لدود انتظره دهرا وتحيَّن زمناً لمنازلته وجندلته.
كنت نحيلا وبنيتي آنذاك ضعيفة.. أمر (الأستاذ) أربعة من التلاميذ بأن يمسكوني ويسقطونني أرضاً ويرفعون قدماي مضمومتين إلى الأعلى ويمنعونني من الحراك، كادوا أن يمنعوني أيضا من التنفس، ثم أحسست بلسعات الخيزران تهوى بشدة على قاع القدمين حتى أحسست أن حمم جهنم قد صبت على قدماي. إنها ليست بعقوبة (الفلكة) المعتادة ولكنها كانت (فلكة) مضاعفة تعدَّت شدتها كل العقوبات المؤلفة والتي لم تصب لا من قبلِ ولا من بعد حتى أكثر التلاميذ إهمالا وتقصيرا وغباء في المدرسة.
بعد أن أفرغ (الأستاذ) جام غضبه لم أقوى على الجلوس أو السير إلا بعد ساعة زمن..
شاهدت بعد دقائق تورم أقدامي ووجود احتقانات حمراء في قاعها وجوانبها وعدت إلى البيت متعثرا لا أقدر على حمل قدماي إلا بمشقة كبيرة.. كنت أمشي عاثر الخطى وإذا ما بلغت حدود العشرين خطوة أستريح قليلا لأعاود السير لعشرين أخرى ودواليك إلى أن وصلت للبيت.
كنت أظن أن العقاب قد أنتهى عند هذا الحد وخصوصا أن (الأستاذ) قد أبلغ والدي أنه قد عاقبني بما أستحق وبما فيه الكفاية، غير أن والدي الذي كنت آمل أن يخفف عنِّي أفرط بعقابي أكثر من (الأستاذ) حتى بدا حالي (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
(4)
تعذيب في البيت
وصلت إلى البيت وأقترب مني والدي مخاتلا ومخادعا على غير عادته، وظننت أن شفقة قد اجتاحته أو تفجرت بداخله أو أن رحمة قد تنزلَّت من عند الله على حين غرة وخصوصا أنه شاهدني أسير متعثرا بخطواتي لا أقوى على حمل قدماي إلا بصعوبة ومشقة بالغه، ولكنه باغتني وحملني بطريقة تنم على عقوبة جديدة أكثر وحشية.
رفعني من أقدامي على كتفه حتى صار راسي متدليا إلى الأسفل وقدماي إلى الأعلى وذهب بي نحو شجرة السدر بجانب بيتنا، وكان الحبل عليها معدا وجاهزا لتعليقي.. ربط أقدامي بالحبل ورفعني إلى فرع الشجرة ورأسي متدليا إلى الأسفل.. كانت هيئتي كديك أو خروف مذبوح قد عُلِّق للسلخ.
كنت أصرخ وأصرخ لعل الأمر يتوقف عند هذا الحد إلا أنه فاجئني بضرب عنيف بعصا على ظهري وبطني وسيقاني.. لم يكن هنالك من منجد أو مغيث يهرع إليّ بسرعة لانقاذي، كانت أمي في الجبل وكان صراخي يشق السماء ولسعات العصا تنهش في جسدي كذئب جائع.
كان صراخي أشبه بإعلان مجاني ودعوة للأطفال والنسوة ليشاهدوا المنظر الذي لم يألفونه ولم يعتادوا على مشاهدته إلا عند ممارسته ضدي من قبل والدي وهو حكرا عليه لا ينافسه أحد فيه ولا يفكر بممارسته أب في قرانا مهما كان الابن متمرد وعاق..
كانوا يشاهدون المنظر مجانا من فوق بيوتهم وبعض الأطفال هرعوا إلى مكان قريب ليروا تفاصيل أكثر عن هذا المشهد الذي لا زال عالقا في ذاكرتي إلى اليوم.
وبعد أن أفرغ ابي غضبه ظللت معلقا على الشجرة حتى هرعت أمي من الجبل لنجدتي وفك وثاقي.
(5)
مع ذلك كان أستاذ قديرا
رحل الأستاذ القدير عنا إلى مدينة تعز بعد أن عثر على وظيفة.. وعلى الرغم من قسوته كان له الفضل الأول في تعليمنا دون غيره.. جاءنا في لحظة كنَّا فيها بأمس الحاجة للمعرفة والعلم والحلم.. لولاه ربما لكان الجهل قد عاث واستبد بنا كل العمر.. لولاه ربما لما وصلت ومُجايلي لأبسط وظيفة عامة في الدولة.. لولاه لكان الكثيرون منا لا يجيدون أكثر من الشقاء ورعي الأغنام.
ذهب وترك لنا أساساً من معرفة نبنى عليها علما في قادم الأيام.. ذهب ولم يذهب علمه وتعليمه ومعروفه.. ذهب وترك مكتبة صغيرة وصندوقاً أسوداً كان يجلس خلفه..
ورثنا بعضاً من كتيبات كانت مخزنة في دولابه.. أتذكر أنني أخذت كتيباً عنوانه (ما بعد الثورة اليمنية) لعبد الرحمن البيضاني..
أتذكر أنني حفظت منه حينها عدداً من الصفحات عن ظهر قلب رغم صغر سني، وعندما كنت أستعرض ما حفظته منه سمعني أحد المدرسين من اقرباء أمي اسمه عبده ردمان عبيد واندهش لما سمع مني من سرد لبعض صفحات الكتيب.. أوعدني أنه سيحضر لي قصة (النمر الأسود)، قصة خاصة بالأطفال وكنت متلهفاً لقرائتها أيما تلهف حتى أحضرها لي في اليوم الثالث، كانت أول هدية أتلقاها في حياتي..
لم أكن اعرف أنه يجب علي أن أقرأها حتى النهاية لألم بوقائعها كقصة واعتقدت أن المطلوب مني حفظها عن ظهر قلب، فصعب عليّ حفظها وفشلت بحفظ بعض من صفحاتها، وتحولت فرحتي إلى فشل وبعض تعاسة، وكنت أتهرب من الأستاذ الذي أهداني إياها حتى لا ابدو أنني غير جدير بما اهداني إياه ولم ادرك أن حفظها غير مطلوب.
(6)
مدير جديد عاقبني بالطرد
درست في هذه المدرسة حتى الصف الرابع.. أتذكر أن ياسين أحمد حسن كان مديرها في ذلك الحين وهو قريبي من جهة أمي.. كان أيضا معلماً فاهماً وحازما مع طلابه..
هذا المدير فصلني ما يقارب الاسبوعين بسبب أنه عاقبني في إحدى المرات فثرت في وجهه وقلت صارخا في وجه : “العن أبوها مدرسة”.
لقد كان حازما حيالي ولم أتصور أن يفعلها ويفصلني من المدرسة كل تلك المدة, وحتى إعادة النظر بقرار الفصل من الدراسة كانت صعبة أو كادت تكون مستحيلة..
بعدها انتقلت للدراسة إلى منطقة شعب في جنوب اليمن والتي كانت محاذية لحدود الشمال، وتبعد عن قريتنا (10 ـ 15) كيلو متر، فيما ظل مدير مدرسة الوحدة ياسين يسألني بضعة (شلنات) ما زالت عالقة بذمتي ومقيدة دينا في عنقي إلى اليوم ولا زال مقيدها في أحدى دفاتره المخصصة بديون طلابه.. ومع ذلك لم يبق لي غير ذلك الرد الذي أجده بيدي ردا على عقوبة الطرد أو الفصل الذي أتخذه بحقي..
(7)
خامس وسادس
درست الصف الخامس في منطقة (شعب) التابعة لدولة الجنوب حينها وكانت مادة الإنجليزي دوما هي المادة الأخيرة في جدول الحصص الأسبوعية. كان المدرس المُكلف بتدريسها طيباً للغاية ومجيدا لمادته ومتمكنا من تدريسها، لكن ابتعاد المدرسة على البيت بأكثر من عشرة كيلومترات كان سبباً يحملنا في معظم الأحيان على العودة دون حضور حصة مادة الانجليزي.. وأحيانا نعود من الطريق ولا نصل إلى المدرسة.
يتوجب علي القيام فجرا أو قبل الفجر وأسافر كل يوم مشيا على الاقدام وأصل إلى المدرسة وفي الإياب أيضا سفر.. مشقة يومية ثقيلة وتأتي على حساب الاجتهاد والمثابرة.. كان الانهاك اليومي ينال من الجسد والذاكرة.. وكانت أضافرأصابع قدمي دائما تشكوا التطامها بالحجارة كل صباح.. لازالت الاصبعين الكبيرتين في القدمين أظافرها مشوهة إلى اليوم من آثارالإلتطام بالحجارة كل صباح.
هذا الانهاك اليومي أدَّى إلى فشلي بثلاث مواد دراسية من بينها اللغة الإنجليزية. وهو أمر غير مسبوق لي في الدراسة.. وتم إعادة تلك المواد وتمكنت من النجاح بصعوبة وما كنت لأنجح لولا الرجل الطيب الحاج محمود من أبناء شعب.
كان في منطقة شعب أصدقاء للوالد الحاج محمود وإخوانه علي وصالح.. كانو ثلاثة اخوان يعيشون في منزل واحد ومعهم أكثر من ثلاثين نسمة.. كانوا مثال للأخوة والطيبة والمودة.. كانوا في منتهى الروعة وقلوبهم أبيض من الفل وبياض السحاب..
كنت أدرس مع بعض أبنائهم في نفس المدرسة.. أذكر أنني قضيت مقيما لديهم شهر أو شهرين بعد إلحاح شديد من قبل الأخوان الثلاثة على والدي أن أقيم لديهم وأجتاز الامتحان..
كانوا يشفقون على تعب أعيشه كل يوم.. كنت أقطع كل يوم مسافة تزيد عن العشرين كيلو مترإلى المدرسة ذهابا وإياب.. ولولاهم لما تجاوزت العام الدراسي وفشلت في كل المواد..
يا الله كم هؤلاء الناس طيبين.. بعد أن قُتل أخي وتشرد والدي أقام عندهم سنوات أحتضنوه خلالها دون أن يجرحوه يوما أو يتململوا من ضيف أطال الإقامة بل كانوا يفيضون طبية ومودة تكفي لأن تملى هذا الكون ويزيد.. ما أطيبهم يا الله.. لقد صنعوا لنا من الجميل والمعروف ما ندان لهم كل العمر أبناء وأحفاد..
وفي الصف السادس انتقلت إلى مدرسة المعرفة بـ (ثوجان) حيث لا يوجد صف سادس في مدرسة الوحدة وكان الاختبار حينها (اختباراً وزارياً)، وثوجان منطقة تبعد عن منزلنا بما يقارب الثمانية كيلو مترات بالإضافة إلى أن الطريق إليها وعرة وشاقة وفيها جبل كبير أصعده صباحاً وأهبط منه ظهراً .. أتذكر أن حصيلة الامتحان الوزاري كانت 302 من 500 درجة وكنت أرى في هذه النتيجة جيدة ومرضية.
(8)
في طور الباحة مدرسة أعزتنا من الجهل
عندما انتهيتُ من المرحلة الدراسية الابتدائية كان لابد أن التحق بالمدرسة الاعدادية، لا توجد مدرسة اعدادية في منطقتنا النائية الواقعة في أقصى الأطراف الجنوبية لدولة الشمال..
كانت منطقتنا وقريتنا بعيدة ومحرومة من أبسط الخدمات.. لا مواصلات ولا اتصالات ولا صحة ولا رعاية اجتماعية ولا نجد أدنى اهتمام من قبل الدولة.. لا نجد لها أثرا في حياتنا إلا بما يزيد من وطأة المعاناة التي تثقل كواهل أهلنا مثل (التنافيذ) والملاحقات الأمنية والجبايات الزكوية..
خدمات الدولة نحونا لا نلمسها ولا نحس بها وهي بمثابة صفرا كبيرا بحجم غياب وطن. حتى التعليم وبناء الفصول الدراسية الابتدائية كان يقع على كاهل آباءنا.
لم يكن لنا من مناص من جور جهل محتوم إلا دولة الجنوب حيث كانت توجد مدرسة إعدادية في مركز طور الباحة الذي كنا نرتاد سوقه يوم السبت من كل أسبوع إن دعت الحاجة.. وتبعد هذه المدرسة عن قريتنا مسافة تزيد على العشرين كيلو متر ولحسن حظنا أنه كان يوجد قسما داخليا ملحقا بالمدرسة يُوفر فيه لأمثالنا المسكن والغذاء.
كانت (مدرسة الشهيد نجيب) في طور الباحة هي عاصمنا من جهل, وكان كثير من طلاب المناطق المجاورة في الشمال والمهددين بالجهل أو انقطاع الدراسة يجدون في هذه المدرسة الملاذ والملجأ.
كانت مدرسة كبيرة مقارنة بما مررنا به وما عرفناه حينها من مدارس، فضلا عن كونها نظيفة ومرتبة ومدرسيها أكفَاء.. غمرتني السعادة وأنا أجد حجرات دراسية لم أعهدها من ذي قبل، وكان قسمها الداخلي جديدا أو حديث بناء.. غمرتنا السعادة ونحن نستلم في أول يوم من التحاقنا بهذه المدرسة أغطية ومفارش جديدة وأدوات أكل نظيفة.. كل شيء مجانا ودون نقائص أو معايب غير أن التغذية فقط لم تكن تكفينا أو أن شهيتنا للأكل كانت أكثر مما يقدم لنا، وهذا ما جعل سوء التغذية يلازمني خلال فترة دراستي الإعدادية في هذه المدرسة التي أعزتنا من جهل.
كان مسموح لمن أراد منا أن يغادر ظهر الخميس ويقضي إجازة الجمعة بين أهله على أن يعود للمدرسة صباح السبت.. كانت السيارات تقلني إلى (رأس وادي شعب) وبعدها أكمل العودة إلى القرية مشياً على الأقدام ومثله الذهاب.. وأحيانا كنت امشي سيرا على الأقدام من البيت حتى (طور الباحة) لاستفيد من مصروف المواصلات التي كان يعطيها لي والدي وأحيانا أفعلها أيضا عند الإياب.. وعند المشي كنا نبحث عن الطرق المختصرة وأحيانا نتسلق السيارات في واسط الطريق مجاناً، نطلق عليها (تعبيرة)، في إشارة إلى حملنا على العبور بدون مقابل، يا لنبل أصحاب السيارات الذين يقدِرون ظروفنا ولا يأخذون منا أجراً!
(9)
في أوج التطرف الثوري واليساري
كانت المرحلة التي يعيشها الجنوب في تلك الفترة يسارية وثورية ولا تخلو من نزعات الطيش والتطرف.. عندما يركب طلاب وحتى مواطنون على ظهر سيارات (اللاندرفر) المكشوفة يرددون في الطريق هتافات ثورية، ومن تلك الهتافات التي مازالت عالقة في ذاكرتي:
“يا ويلك ويل يا سلبي من ضربتنا العنيفة, والمتستر بيُكشف والمراحل طويلة”
غير أن الهتاف الذي كان يحزُ في نفسي ويترك أثرا أداريه عمِّن هم حولي كان يقول: “دقوا المشايخ دقوهم”، وكان السبب يرجع إلى أن إخوة أمي في الشمال محسوبين على فئة “المشايخ” رغم ان ظروفهم كانت متواضعة للغاية.. لم تكن ثمة فروق اجتماعية مهمة تُميزهم عن عامة الناس.
اتذَكر أن خالي (علي سالم ـ دعبل) كان يقترض ويستدين بعض المال من والدي الذي هو أيضا في حال ضيق أو غير ميسور.. و كان أيضاً جدي، والد أمِّي، معروفاً بزهده وتواضعه وكان يعمل لآخرته على حساب دنياه، وأغلب وقته كان معتكفا يتلو القرآن في ديوانه تقربا إلى ربه راجيا رحمته وجنته غير أن هذا لم يعفه من بعض تطرف وطيش اليسار في الجنوب عندما ذهب إلى عدن بغرض تلقي العلاج فأخفي قسرياً، وانقطعت جميع أخباره مذ ذلك الحين ولم نعد نعرف شيئا عن مصيره إلى اليوم.
درست المرحلة الإعدادية في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة في اواسط السبعينات وتحديدا من العام (1976 ـ 1978) إن لم تخني الذاكرة.. أقمت في (القسم الداخلي) وكان عدد غير قليل من أبناء المناطق الشمالية المجاورة يلتحقون بهذه المدرسة ويقيمون في قسمها الداخلي، توفر لهم دولة الجنوب التغذية إضافة إلى السكن.. وكان سبب توجهنا إلى الجنوب للدراسة إما بسبب عدم وجود مدارس إعدادية في أريافنا وإما لأسباب سياسية واجتماعية حملتنا على التوجه للدراسة في هذه المدرسة، وعلى كل حال كان لدولة الجنوب ـ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ـ في ذلك الفضل الذي لم ولن ننساه ولن نجحده، لقد كنا بأمس الحاجة للتعليم.. وفي هذا المقام لا بأس من استحضار قول الشاعر المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته*** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
(10)
فصلي من المدرسة
كانت من أصعب المواد الدراسية التي واجهتها في سياق دراستي الإعدادية هي مادة الإنجليزي لأن مدارس الجنوب كانت تدرِّسها من الصف الخامس بينما مدارس الشمال كانت تدرسها من فصل أول إعدادي، وعندما درست الفصل السادس في الشمال وانتقلت إلى الفصل الأول إعدادي في الجنوب كانت قد فاتتني سنة من مادة الإنجليزي لم أدرسها في الشمال، فضلا عن الضعف السابق الذي رافقني في هذه المادة حتى بدت هذه الفجوة حاضرة وتتسع في حياتي التعليمية اللاحقة حتى أكملت الجامعة.
في سنة أولى إعدادي تم فصلي لمدة أسبوعين من قبل مديرها آنذاك الأستاذ عبده علي الكربي وهو أيضا من أبناء القبيطة، غير أن سبب الفصل هذه المرة كان بسبب قيامي وزميلي جميل قائد صالح بإعداد وتوزيع منشور مسيء في أروقة المدرسة والسوق..
لقد كشف المدير أمري عندما حضر ليلا إلى القسم الداخلي حال ما كنت أحل الواجبات المدرسية وشاهد طريقة كتابة حرف الهاء بنفس الطريقة الواردة في المنشور، فاستدعاني للتو وطلب مني الاعتراف، وفتح معي تحقيقاً ولكنني أنكرت بإصرار عنيد أن ليس لي أي علاقة بهذا المنشور، فيما كان الخط كاشفا لفعلي بوضوح تام..
استخدم المدير كل أساليب الترغيب والترهيب لانتزاع اعتراف مني أو لكشف من شاركني الفعل غير أنه فشل في نزع أي اعتراف رغم حنكته في التحقيق، ففصلني من المدرسة، وضللت مفصولا لمدة أسبوعين أو يزيد، وعندما أدركه اليأس ولم يستطع انتزاع شيء ألغى قرار الفصل وأعادني للدراسة.
(11)
عراك دامي
في سنة ثاني إعدادي تم إخراجنا من المدرسة لاستقبال الرئيس سالمين والأمين العام للتنظيم السياسي عبد الفتاح اسماعيل، خرجنا من المدرسة بصفوف منتظمة ثم بدؤوا ينظمونا في صفين على جانب الطريق الممتد من بوابة المركز وحتى مسافة كيلو متر تقريبا باتجاه طريق قدومهما..
كان مكاني في الصف بالجهة المحاذية للمستشفى وكنت أتشوق لأرى وجه سالمين وعبد الفتاح إسماعيل.. كنت متشوقاً كغيري لأرى هيئتهما.. كنت أتمنى أن يمران من أمامي ببطيء لأملئ عيناي الملتاعة لتفاصيلهما، فهذه هي المرة الأولى في حياتي التي سأرى فيها رئيس دولة وأمين عام تنظيم.. ولكن كان الانتظار تحت هجير الشمس مملاً ومضنيا لتأخر وصولهما بعض الوقت عن الموعد ولم يكسر هذا الملل عني غير استفزاز مقابل وتحدي..
كان في الجهة المقابلة لي مجموعة من أبناء منطقة طور الباحة تعاركت معهم أكثر من مرة ولطالما أستفزوني مرات عديدة.. كان بيني وبينهم بغض صبيان وتحد.. كنت عندما أراهم أشعر بغربتي وأنني لست من أهل الدار وربما هم شعروا أيضا أنني غاز أو دخيل غريب يثير الاستفزاز..
ظلوا يرمقونني ويسخرون مني ويستهزئون بي ويضحكون علي ويتحدونني.. وأنا في المقابل تحديتهم وقلت لهم اختاروا واحداً منكم لنتعارك أنا وهو رأس برأس..
فنزل أحدهم وكان ممتلئ البدن فيما أنا كنت نحيفا وضعيف البنية وأعاني من سوءٍ في التغذية.. ربما السكين تصنع تعادل في التفوق بيننا أو ترجح الأمر لصالحي.
قلت لهم ننزل نتبارز خلف تلة الرمل على بعد حوالي 200 متر حتى نأمن من أي تدخل يساعدني أو يساعده، وكان رفقائه واثقين أن الانتصار سيكون من نصيبه. وصعد رفقاءه رأس التلة ليرون مشهد العراك وكنت أخفي سكينا صغيرة ورفيعة ـ تستخدم لتقطيع الروتي ـ اشتريتها قبل بضعة أيام تحسبا دفاعياً لموقف طارئ أو محتمل..
وعندما وصلنا المكان الذي اخترناه للمبارزة هاجمته بغتة بالسكين وباشرته بطعنة بالبطن فهرب وهو يصرخ وكنت ألاحقه وأحاول طعنه في أكثر من مكان، وكنت أشعر أن أي تراخي أو تمهُّل عن ملاحقته قد يقلب حال معادلة العراك لصالحة، فلم اعطه تلك الفرصة فهرع مدرسان لنجدته وتخليصه ومسكا بي بقوة كما تمسك الشرطة بالمجرمين بعد أن انتزعا مني السكين، وعندما رمقت من اعتركت معه وكان يصرخ ويتوعد ويهدد بالقتل فاجئني رؤية كمية الدم وغزارته على قميصه..
كان الدم ينزف من بطنه بغزارة ملحوظة.. شعرت بالندم والحسرة والحزن عليه.. شعرت بالقلق من أن يصل الأمر إلى ما لا أتوقعه.. شعرت أنني كنت متهورا وأحمقا وإن المقامرة والتحدي الذي في غير محله ممكن أن تحوِّل الإنسان من شخص سوي إلى مجرم.. شعرت أنه كان بإمكاني الاكتفاء بإشهار السكين في وجهه للحيلولة دون أن يحدث ما حدث.
(12)
في السجن
أخذوني إلى السجن بينما أخذوه هو للمستشفى، ولسوء الحظ أن أمي كانت مريضة وترقد في نفس المستشفى وكان أخوه هو مدير المستشفى، ما ضاعف من وتيرة الخوف والقلق لدي.
هرع أحد أقرباء المصاب وأظنه ابن عمه ووجدني بينما العسكر يهمون بإدخالي الزنزانة وصرخ بوجهي وبوجه العسكر والحاضرين بغضب واستعلاء ناقم: ” لا يمكن أن نقبل بعشرة من هذا”! نعم كان شكلي قزما منهك شحوب فيما كان قريبه المصاب مربربا وتبدو من ملامحه كأنه أجنبي.. شعره ووجنتيه وعيونه وجسمه الممتلئ باللحم والشحم..
تم التحقيق معي من قبل البحث الجنائي وتحريز السكين كأداة جريمة، وواجهوني بها وتم إثبات أقوالي في محضر والتوقيع والتبصيم عليها وكانت جريمتي مشهودة..
عرف أخي بالحادثة فحضر من القرية ومن حسن حظي أن الطعنة لم تكن غائرة وأن أخي محط احترام وتقدير لدى المسؤولين في مركز المديرية وأنني ما فتئت حدثا، ولهذه الاعتبارات تم اطلاق سراحي بضمانته، وتم استدعائي وتوقيفي من قبل مسئول البحث أكثر من مرة وفي إحداها تم توقيفي أنا والمصاب معا بعد أن شفي من الاصابة وتم حل القضية وإغلاق ملفها.
إن ما حدث كان تهورا وطيشا وسوء تقدير في عمر كنت لا أزل فيه حدثا، وكان شعوري بالغربة والاستفزاز المتكرر والشعور بالتعالي من قبل ما بدا لي أنها عصابة دفعتني إلى فعل ندمت بسببه وتعلمت منه..
ندمت أيضا لعدم تمكني من رؤية الرئيس سالمين وعبد الفتاح اسماعيل.. وبعد فترة صدمني خبر الإطاحة بسالمين الذي كان محبوبا وذو شعبية لدى الكثيرين من البسطاء، فيما كانت شعبية عبد الفتاح اسماعيل في الغالب نخبوية ومكانته أكبر عند المثقفين.
(13)
فاجعة مقتل أخي
في سنة ثالث اعدادي تم تعيين (علي الخفيف) مديراً عاما جديدا للمدرسة وهو من أبناء الجنوب بعد أن ذهب المدير السابق للعمل في الشمال.
كان المدير الجديد طيبا وودوداً، وحال ما كنت أعيش اجواء الامتحانات الوزارية ولازال متبقي امتحان ثلاث مقررات، نقل إليّ المدير الخبر الصادم ولكن بالتقسيط المريح.. حاول أن يبقي الأمل لديّ أن أخي لا زال يعيش حتى أنهي الامتحان بسلام ويهيئني في نفس الوقت لتقبل الفاجعة تدرجيا دون إنهيار مميت..
حاول المدير أن يقلل من تأثير الحادث على نفسيتي وحتى لا يؤثر على نتائج امتحاناتي وبنفس الوقت يهيئني للتصالح مع الحقيقة الصاعقة وربما تكون في فرط تعلقي به مميته..
كم كان هذا المدير أباً ومسؤولا وعظيم!
كان هذا الخبر هو مقتل أخي بالرصاص، والذي وافاه الأجل في طريق إسعافه إلى عدن، ووارى جثمانه في مقبرة العيدروس بكريتر.. ألم أقل أن نصف حزني في عدن ياعدن.. من هذا الذي يقتلعني منك وأحزاني مثل فرحي مثل حبي ضاربه الجذور إلى أعماق الأرض في عدن.
انتهت من امتحانات العام الإعدادي الأخير وتيقنت بعد حين صحة خبر مقتل أخي، ومع ذلك ظل الوهم سلطان يساير ما ترغبه النفس وتهواه وظل وهمي يرفض هذه الحقيقة الأكثر مرارة في حياتي..
لقد بذل المدير ما في وسعه ونجح في أن يجعلني أجتاز الامتحان بنجاج ونجح أن لا يجعل ارتطامي بالحقيقة مميتا وإن ظل وقعه صاعقا وصادما..
كم كانت الفجيعة طامة.. كيف لي أن أصدق الخبر.. من فرط التعلق لا نصدق الوقائع حتى وإن شهدناه بأم أعيننا.. إنه الحب والتعلق بمن نحب.
(14)
استذكار لقاء الوداع الأخير
كان آخر لقاء عابر في الطريق قبل أيام قليلة من مقتله.. كنت متجها إلى طور الباحة فيما كان هو آيبا إلى البيت..
كنت أراه على نحو مختلف.. كان جمال وجه ساطعا لم أر مثل هذا السطوع من قبل..
كنت أستمتع برؤيته وكأنني أراه للمرة الأولى.. كنت بحس فنان بديع يرقب القمر في قاع الماء وهو يتماوج أمام العيون..
كنت أراه بذوق رسام وهو يرى الماء نميراً ومتلاءلئاً تحت سطوع الشمس في رابعة النهار.. كان إحساس اللحظة كثيف.
كان ينبض وجهه بنور وبياض على غير المعتاد.. رأيت عيناه ناعسة مع ميل للرمادية أو الإزرقاق.. أول مرة أرى عيناه بهذا العمق وهذا السحر وهذا اللون وبهذه المسحة الآسرة.. ماذا أبقيت للعيون يا أخي لنحب أو نحتب؟!
رأيت قامته أكثر امتشاقا.. كانت عنايته بملابسه فيها ذوق فنان لونا واختيار.. وكانت عنايته في اختيار ما يلبسه في ذلك اليوم فائق الذوق والجمال وكأنه كان عريس ويوم زفاف..
إجمال ما شعرت به إن سر غامض يريد أن يبوح بمكنون..
كان أكثر إشراقا ونفادا وجمالا آخاذ فوق جمال..
أحسست أنني أحبه وأن مغنطيسا ما يمنعني من الانصراف عنه والمغادرة لولا خجل يجتاحني كالسيل..
يااااالله.. لم أكن أعلم أنه لقاء عابر لفراق طويل وسرمدي..
كنت أحس بشيء مختلف.. إحساس غامض وحيرة.. لم أكن أعلم أن نظراتنا لبعض كانت الأخيرة وفيها وداعا ومسك ختام..
أحسست من نظرات عينيه يريد أن يقول شيئاً.. شيئاً لم أفهمه.. احساس مكثف ومتبادل ولكن يكتنفه الغموض..
يا إلهي.. لقد فهمت أنه كان اللقاء الأخير والوداع الأخير والسلام الأخير.
(15)
اطلالة تعريج سريعة
قُتل أخي وكان يومها علي عبد الله صالح قائدا للواء تعز قبل أن يصير رئيسا.. كان يكن عداءً صارخاً لدولة الجنوب وكل من يتواصل معها أو له صلة بها..
اطلعت على رسالة في وقت لاحق من مقتله موجهه من أحدهم الى صالح ـ الذي صار رئيسا للجمهورية ـ وفيها نص مازلت أتذكره إلى اليوم “لقد قتلنا وكر العمالة”.. وطلب منه في نهايتها ما يجود به كرمه من المال.
لقد أطلعني على هذه الرسالة عيانا قائد ما كان يعرف بقوات الشعب الثورية والذي كان مقره في المعلا قبل أن يتم نقله إلى التواهي، وهذا الشخص كان اسمه التنظيمي (صلاح) فيما عرفت لاحقا أن اسمه الحقيقي عبد الكافي وكان مقرباً من سلطان أحمد عمر.
وعرفت أنه تم الحصول على هذه الرسالة عبر اختراق أمني لمكتب الرئاسة في الشمال..
قتلوا أخي وزجوا في السجن كل من قدم مساعدة لإسعافه كان في صورة سيارة أو احضار بطانية أو المساعدة في حمله أو اسعافه والاستثناء نادر..
جاءت حملة أمنية من تعز خلال فترة وجيزة بعد مقتل أخي وقامت بتفتيش منزله، لم تعثر على شيء إلا قليلا من طحين، وحزن وفير؛ فقال الضابط متعاطفا لحظتها مع بؤس الحال (لم نجد ما يستحق حتى الطحين). مات أخي ولم يملك في بيته ذّرّة طحين تكفي ليوم ونصف أو بالكثير ليومين.. هذا ما حكته لي خالتي أم علي وما حكاه جارنا الوالد أحمد محمد الفقيه الذي ألزموه على مرافقتهم أثناء التفتيش.
كما تم تفتيش منزل أبي فيما أمي وأخوتي الصغار كانوا يبكون ويصرخون مرعوبين في الاصطبل..
تم لفترة طويلة ومتفاوتة منع ومضايقة تقديم أي مساعدة لأسرتنا حتى على مستوى شراء الحاجيات الأساسية للعيش بنقودنا وهو ما يثير في الحلق غصة من نار..
جارنا أحمد محمد مرشد الذي كان يخاطر ويجازف لمساعدة أسرتنا في الحصول على متطلبات العيش الأساسية، وكان في مقام الجار الفاضل والوكيل..
كان أخي معارضا للنظام في الشمال ومنتميا للحزب الديمقراطي الثوري الذي كان يرأسه عبد القادر سعيد.. أخي من أبطال مقاومة حصار السبعين يوما دفاعا عن الجمهورية، وكان زميلا لعبد الرقيب عبد الوهاب ورفاقه الميامين..
كنت أنا لا أحب النظام في الشمال.. كنت اسمع بقتل وتصفية المعارضين السياسيين وتعذيبهم بالسجون.. كنت أسمع بمحمد خميس الذي كان رئيسا لما يعرف بجهاز الأمن الوطني وما يرتكبه من فضائع بحق المعارضين السياسيين..
عرفت أم حمير الذي اعتقلت مع وزجها وروت لي قصص التعذيب في السجون وبشاعة الانتهاكات التي مُورست ضدها وزوجها وضد المعتقلين المناهضين لسلطة النظام في الشمال..
أم حمير التي ولدت ابنها حمير في السجن، وقاومت الجلاد والسجان والسجن .. تم تكٌسير أسنانها وأصيب عمودها الفقري جراء التعذيب.. كل ذلك كان له أثره الحقوقي البالغ في مراحل حياتي اللاحقة.
في مناطقنا كنت أرى التنافيذ التي تأتي على المواطنين وتتحكم بهم وتجبرهم على ما يكرهوه..
كنت اسمع عن الحملات والمداهمات من قبل النظام ضد معارضيه والمشتبه بانتمائهم للمعارضة.. وكان انتماء أخي للمعارضة قد جعلتني أعيش كثير من هذه المخاوف وما له صلة بها..
أعود بعد هذا التعريج السريع إلى السياق لأواصل ما كنت بصدده..
نجحت في ثالث إعدادي بتقدير جيد، وصار والدي ملاحقا ومطلوبا من سلطات الشمال فيما أنا مكثت عدة أسابيع بعد الامتحانات في منطقة (الغول) الجنوبية عند رجل فاضل اسمه (عبد الوهاب) كان شهماً وطيباً وكريما ومتواضعاً.. استضافني خلال العطلة المدرسية وخفف من معاناتي وعاملني مثل أحد أبنائه وبعدها انتقلت للدراسة في مدرسة (البروليتاريا) الواقعة في طريق عدن لحج فيما ظل والدي مشردا بين عدن ووادي شعب عند صديقه (الحاج محمود)
كان “الحاج محمود” وفياً وطيباً ومخلصا مع أبي ومحنته طول فترة بقائه ومكوثه عنده.
16
مدرسة البروليتاريا
مدرسة البروليتاريا كانت مدرسة لأبناء البدو الرحل، تأسست في عهد الرئيس سالمين والذي كان يبدي اهتماما ملحوظا بهذا النوع من المدارس التي تهتم بتعليم أبناء البدو الرحل، وقل هذا الاهتمام بعد رحيله.
درست الثانوية في مدرسة البروليتاريا.. وكان هذا الاسم عسيرا على اللسان في البداية ولكنه صار فيما بعد مميزا ومحل اعتزاز ولاسيما أن معناه كان مرتبط بالطبقة العاملة التي كان ينظر إليها في الثقافة الماركسية بأنها من أكثر طبقات المجتمع ثورية ومناط بها مهمة إسقاط النظام الرأسمالي.
عندما التحقت بهذه المدرسة في العام 1979كان أكثر من يقصدها طلاب من ريف محافظة لحج ولاسيما من ردفان والضالع وطور الباحة ويافع.
تقع مدرسة البروليتاريا في منطقة متوسطة بين محافظتي لحج وعدن، فيما كانت إداريا وتعليميا تابعة لمحافظة لحج، وكان ملحقا بهذه المدرسة قسم داخلي توفر الدولة فيه لجميع الطلاب السكن والغذاء مجاناً، ولكن كان الغذاء رديئا وقتها ويفتقد للتحسين بالإضافة إلى أنه كان قليلا ولا يشبع بطوننا، كان عدد الطلاب كثير، وبعضهم كان لا يلحق وجبته المقررة بسبب نفاذ كمية الغذاء المطبوخة..
كان طابور الحصول على الوجبة طويلا ويشهد أحيانا عراكا بين بعض الطلبة بسبب الزحام أو محاولة بعضهم التقدم بتجاوز مواقعهم في طوابير الغذاء.. وكنت في بعض الأحيان عندما لا ألحق وجبة العشاء أضطر للذهاب لأشجار (الديمن) المحيطة بالمدرسة لأسُّد رمقي من الجوع أنا وأحيانا كان معي صديقي محمد عبد الملك حسين..
كنت أحيانا أذهب إلى مزرعة مجاورة تابعة للدولة وذلك للمذاكرة تحت ظلال أشجارها الوارفة وننتزع خلسة بعض حبات الليم لنستخدمها على الفاصوليا وتعطينا شهية مضاعفة والأكل قليل ويصير بالليم لذيذ، نكمل الوجبة ولا تسد حتى نصف بطوننا.
كنا أحيانا وفي موسم زراعة أشجار الجلجل نجوع في الليل عندما تتطاول ساعاته علينا ويزيد جوعنا نذهب متسللين لنجني كمية من محصوله نسد به جوعنا.
(17)
احتجاجات الجوع
بسبب هذا الجوع وغياب التحسين في وجبات الغذاء أضرب عن الدراسة عدد كبير من الطلاب وكنت واحدا منهم..
امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء ونطالب بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحج وعدن بالحجارة ومنعنا عبور السيارات وهو عمل جريء في ذلك الوقت وشديد الحساسية عند السياسيين لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل كان يصنف باعتباره ثورة مضادة ويذهب السياسيين إلى تفسير الاحتمالات والأسباب فوق ما نطيق ونحتمل، ولكن وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنا العواقب وحد من تفسير احتمالات وأبعاد الاحتجاج.
كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا من الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وأقل من الكثير هم الذين آثروا السلامة وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة إن لم يكن الغير مسبوق.
كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء.. كنت أسأل نفسي لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!!
كنت معجب بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد..
كان أبناء الضالع من الطلاب في المدرسة هم طليعة المحتجون.. كنت معجب بأولئك “المجانين” الذين ينازلون الجوع ويتحدون عواقبه.
كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم..
نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.
لم نهداء ونكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر والذي نجح في تهديتنا عندما قال:
تروحوا أسبوع وترجعوا على اكل حسين ونظيف، وأمر بتحضير “بوابير” لنقل الراغبين من المحتجين والمتذمرين كلاً الى مديريته..
العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية هو عمل جريء ومقدام.
أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسم عظيم في دولة تدعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية وتعمل من أجل إقامة دولة البروليتاريا عمل ربما يكشف هشاشة بعض ذلك الادعاء.
أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظ في التغذية والنظافة والتنظيم.. وكان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.
(18)
قراءة خارج المناهج الدراسية
في سنة ثانية بثانوية البروليتاريا تم تخصيص دينارا مساعدة لأبناء الشمال (الجبهة) شهريا وكنت انتظرها بفارغ الصبر نهاية كل شهر، وكنت أصرفه في الغالب عندما أجوع بشراء البسكويت والشاي من عند محمد حيدرة الذي كان يبيع الشاي وبعض السلع في حانوت صغير في بوابة المدرسة. كانت وجبة الشاي والبسكويت وجبة لذيذة وشهية لازلت إلى اليوم أشتهيها في بعض الأحيان وأتذكر من خلالها أيام خلت وانقضت.
في مدرسة البروليتاريا كانت لدي إذاعة صغيرة أتابع من خلالها الأخبار ليلا وكنت حريصا على سماع نشرة منتيكارلو الساعة الثامنة مساء ونشرة bbc من لندن الساعة التاسعة مساء..
كنت أتطلع للمعرفة وأقرأ الصحف عندما أجدها وكذا بعض الكُتب حتى ما كان منها عصيا على الفهم بالنسبة لمستواي المعرفي ولكنني كنت أحاول.
اذكر أنني في صف الثاني ثانوي فاجئني وثار في وجهي أحد الاساتذة لمجرد أنه شاهدني أقرأ كتاب لإنجلس (أصل العائلة) عند بوابة المدرسة، وعنَّفني كون هذا يصعب فهمه حتى على خريجي الجامعة وأن مطالعتي لهذا يأتي على حساب مذاكرة دروسي .. كان واضح أن هذا الاستاذ متخفف من الايدولوجيا واعتقد ان اصوله هندية أو باكستانية كما هو واضح من سحنته وملامحه.
هذا الزجر جعلني اقرأ أكثر من خارج المناهج أو المساقات المدرسية دون أن يؤثر ذلك سلبيا على الاهتمام بدروسي التي كنت اعطيها القدر الأوفر من الوقت والاهتمام.
وإجمالا كانت القراءة خارج المناهج الدراسية الأساس لتوسيع مداركي المعرفية بل والتفوق لاحقا في الدراسة ومغادرة دائرة الفشل المدرسي.
(19)
كانت لدي طبيعة في مذاكرة دروسي وهي إن قراءتي تتم بصوت مسموع.. لا أدري عما إذا كان هذا الأمر قد جاء لي سليقة وفطرة أم هو أمر مكتسب..
كانت نسبة استيعابي وأنا أقراء بصوت مرتفع أكثر مما لو قرأت بصوت منخفض وقد تحول هذا الأمر في الجامعة والمعهد العالي للقضاء إلى مشكلة مؤرقة سأتحدث عنها بموضعها لاحقا.
كنت أخرج من القسم الداخلي إلى الصحراء وأذرعها طولا وعرضا وأنا أُذاكر دروسي بصوت عالي بل وأشير بالأيدي والأرجل دون أرادة وأسير بعض خطوات وأتوقف وأكرر العبارات حتى أفهمها وأحاول حفظها وما أن أنتهي من درس اكتب على كثبان الرمل (ربي زدني علما) وأحيانا أضيف (من المهد إلى اللحد) حتى أن من يراني عن بعد ويشاهد حركاتي يظن إن بي مس من الجن أو أنني مجنون .. كنت أقرأ بفمي ويداي وقدماي وكل جسمي.
ومع ذلك وجدت نفسي أفضل من أي وقت مضى اهتماما ومثابرة واجتهاد.. شعرت بأهمية التفوق وتعاطيت مع طموحي وما أروم بمسؤولية أكثر..
في مدرسة البروليتاريا صرت أقدر أهمية التعليم وأهمية الاطلاع والمعرفة.. وبدت الثقة بنفسي تزداد والمعرفة تطيب وتلذ.
(21)
غصة وأسف
ما يؤسف له أن مدرسة البروليتاريا كان جميع طلابها من الذكور ولا توجد معنا طالبة واحدة .. كان أيضا الوضع مشابه في مدرسة النجمة الحمراء..
كان حلمنا أن نتعلم ونجد لقمة عيش تعيننا على الصمود في وجه الجوع، وعندما تحقق هذا الحلم صرنا نرى الاختلاط حلم واحتياج بعيد المنال.. تطلعات الإنسان لا تنتهي عند تحقيق حلم معين .. فالأحلام أيضا تتناسل كالضوء..
كنا نذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك إلى ثانوية عبود لوجود سكن لدى قريب له في حرم هذه الثانوية .. كنت أرى الحرية هناك تنبض بالنور والحب والتصالح فيما أنا أعتصر ألما وغربة وفقدان..
كنت أشعر بأسى جارف وأنا أتذكر مدرستنا “البروليتاريا” التي بدت لي بالمقارنة كصحراء مجدبة ورياح تذر الأتربة في العيون والوجوه على مدار العام، فيما مدرسة ثانوية الشهيد عبود في دار سعد كانت تبدو لي أكثر من حلم عصي على التحقيق.
لطالما تمنيت أن نقوم باحتجاج نطالب فيه على عنتر والقيادة بحق الاختلاط أسوة باحتجاج تحسين التغذية، و لكنني خجولا ولا أتجاسر على إعلان رغبة من هذا القبيل..
(22)
حبي الأول في عدن
خلال دراستي في البروليتاريا أحببت فتاة من عدن وكانت جميلة ورقيقة وجاذبة كالمغناطيس .. كانت حبي الأول والجميل، ولكنه كان فادح العذاب ومرد ذلك أنه كان من طرف واحد مقتولا ومصلوبا بالخجل..
كنت أبن الريف الخجول والمملوء بالحياء.. هذا الخجل كان مكلفا ومثقلا بالعذاب، وظل خجلي ملازم لي سنوات طوال..
كنت أخرج يوما في الأسبوع وأقطع عشرات الكيلومترات لأراها فقط ومن النافذة، فإن رأيتها كان قلبي يكاد يقع مني وإرباك كوني يصيب أوصالي..
هذا الحب لا ينسى مهما تقادم بي العمر .. الحب الذي لا تطاله تظل إلى آخر العمر متعلق فيه..
أنه يشبه حبي للجنوب في ظل عشق الجنوب للانفصال .. إنه حب خائب ومع ذلك نظل نخلص له إلى آخر العمر ونتذكره وهو لا يعلم أين نحن.
ظل هذا الحال ثلاث سنين ولا أدري أين اختفت ولم أجرؤ حينه على البحث والسؤال .. كم هو مكلف الحب الصامت والخجول يا صديقي محمد قاسم .. كلانا عاش هذا الجحيم وتعذب بصمت حد الوحشة والكتمان المميت.
حلمت أنني من أجل عينها كفرت وعلى لوح نافذة السكن الداخلي كتبت عبارة “من اليوم أنا ألحدت” .. كانت الجملة أشبه بعبارة أرخمديس “لقد وجدتها” مقارنة مع الفارق طبعا.
حلمت أنني أقول هذا ليس كل السبب بل وما تعلمته أيضا من مواد الفلسفة والأحياء وغيرها من مواد العلوم والاجتماعيات وما قرأته من خارج المقرر المدرسي.
تخرجت من الثانوية بنسبة 82% ولم يكن الحصول على هذا المعدل يومها أمرا ميسورا وهي نسبة كانت تؤهلني لمنحة دراسية في الخارج ولكن كنت أيضا خجولا وقليل “المعرفة” و لا يوجد لي معينا أو سند.
في السلك العسكري
(1)
الالتحاق بالكلية العسكرية
“لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية بعد أن أحرزت المركز الأول في الدفعة.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع”!
ما أن أتممت الثانوية العامة حتى كان عليّ أن أحسن اختيار جواب سؤال: ماذا بعد؟ كنت أشــعر أن الجواب مهم وعليّ أن أجيد الاختيار لأن مستقبلي محكوم بالجواب على هذا السؤال.. كنت أشعر إن الإجــابة تحتاج لبعض من التريث والاستغراق.. شعرت في أحايين كثيرة بالحيرة العميقة.. شعرت أنني على مفترق طريق وأنني سأدفع ثمن أي خطأ كلفة باهظة حتى آخر العمر.. داهمتني خيبات عديدة جعلتني أردد: ” مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ”.
تمنيت أن أحصل على منحة دراسية بعد الثانوية العامة في الخارج شأني شأن عدد غير قليل من أقراني ومن هم دون مستواي؛ حيث كانت محصلة نتيجتي في الثانوية العامة جيد جداً.. كنت أريد أن أحصل على منحة دراسة في الإعلام أو الآداب أو العلاقات الدولية أو العلوم السياسية أو الفلسفة أو علم الاجتماع أو نحو ذلك.. لكنني على ما يبدو كنت عاثر الحظ وقليل الحيلة ولم أتلقِ فرصة من أي جهة أو مسئول مختص للوصول للمنافسة والفوز بمنحة دراسية..
اضطررت للاتجاه نحو خيار آخر وهو الالتحاق بالكلية العسكرية والحصول على مقعد من تلك المقاعد المخصصة لما كانت تُعرف بالجبهة الوطنية الديمقراطية (جودي) التي تم تخصيص حوالي 12 مقعداً لها في تلك الدفعة، كانت هنالك مقاعد أخرى تمنح لما يعرف بحركة التحرر الوطني مخصصة لفلسطينيين وأكراد وشيوعيين عراقيين وعمانيين.
كان يتوجب الفحص الطبي للالتحاق في الكلية العسكرية، وكنت قبل المعاينة الطبية أشعر بالخجل من معاينة الطبيب لأعضائي الداخلية.. بل وشعرتُ عند المعاينة أن الخجل يبتلعني.. تذكرت “علوان” الرجل الحساس والخجول والقبيلي في القرية الذي آثر الموت على معاينة الطبيب للباسور والذي كان قد بلغ حد لا يحتمل من التضخم والألم، وأنتحر للحيلولة دون أن يرى الطبيب فتحت شرجه.. كم نحن قوم مثقلين بالحياء والحرج والخجل وإلى حد يفوق التصور في بعض الأحيان.
اجتزت امتحان اللياقة البدنية في الكلية العسكرية وكنت أخشى ألا أجتاز الفحص الطبي بسبب وجود دوالي خفيفة بالخصيتين، غير أن الأمر كان بسيطا جداً ولم يشكل لي أي مانع من الالتحاق بالكلية العسكرية.
(2)
الهروب من التجنيد إلى المضبطة
التحاقي بالكلية العسكرية كان يعني لي اختصار الطريق.. اختصار من عمر ينفذ وزمن يهدر ربما لا استفيد منه كما يجب..
كان هروبا من التجنيد الذي من المفترض أن أفقد فيه عامين دون أن يضيف شيئا إلى مستقبلي المنشود.. فترة السنتين التي سأقضيها في التجنيد سأقضيها في الكلية العسكرية لأتخرج منها ضابطا برتبة ملازم ويكون لدي معارف عسكرية قد احتاجها في نضالي القادم في الشمال..
كما أن أخي علي سيف حاشد كان هو الآخر خريجاً من الكلية الحربية في صنعاء وكان له دور نضالي في حماية الجمهورية وكسر حصار السبعين يوماً على صنعاء جنباً لجنب مع زملائه الأفذاذ عبد الرقيب عبد الوهاب والوحش وصالح سرحان وغيرهم..
لقد كنت بالفعل فخورا بما أنجزه أخي في الحياة العسكرية دفاعاً عن الثورة والنظام الجمهوري .. أردت أن أكون مثله أو أكثر منه إن استطعت رغم تغير الظروف وتبدل الأحوال ..
كان أخي شجاعا ومقداما ومحبوبا ويحمل صفات قيادية كثيرة ومتعددة.. كنت أريد أن أسلك مسلكاً يحاكي تجربته في الحياة أو على الأقل أختط خطاً مقارباً له.. كان عسكريا مشهوداً له بالشجاعة وكان يسارياً وثورياً ومتمرداً على النظام في الشمال ويرى في قضايا الناس والتقدم قضيته الأولى.
الصورة أخي وأنا .. صورة أخي تعود إلى عام 1963 أو الذي يليه.. فيما صورتي تعود إلى 1982
(3)
الإرغام على الالتحاق بالكلية العسكرية
في نهاية عام 1981 قبُلت في الدفعة العاشرة وبرقم (573/10)، كان مثل هذا الرقم والحاجز يشير إلى أن الملتحق بالدفعة منتمي لحركة التحرر الوطني، فيما كان الطلاب الذين ينتمون لليمن الديمقراطية بأرقام عسكرية مختلفة عن أرقامنا.. غير أن هذا التمايز بالأرقام لا يقابله أي شكل من أشكال التمييز بين صفوف الملتحقين بالكلية.
صار هذا الرقم (573) بالنسبة محط تفاؤل وخصوصا أن صاحبه أحرز المرتبة الأولى في دفعته، كنت استحضره عند إنشاء كلمات السر واختيار الأرقام القائمة على الحظ على أمل أن يجلب لي التوفيق والتفوق ..
كان هنالك حرص من قبل القائمين على الكلية العسكرية وعلى وزارة الدفاع على ضمان توفير الحد الأدنى من تمثيل المحافظات في صفوف الملتحقين بالكلية، وكان أبناء عدن تحديدا أكثر من يحجمون عن الالتحاق بالكلية العسكرية إلاّ في حدود أعداد ضئيلة وقليلة جداً ربما بسبب مزاجهم المدني الذي لا يؤثر العسكرة ولا يطمئن لها كمستقبل..
شاهدت وأنا استعد لحلاقة رأسي ثلاث مجموعات من الطلبة وهم يجتمعون على ثلاثة من أبناء عدن ليرغمونهم على حلاقة شعر الرأس (صفر) بما أنها من الشروط الأولية والبديهية للالتحاق بالكلية..
شاهدت هذا الإرغام وسمعت صراخ المرغمين واستنكرت في أعماق نفسي أن يتم حمل الناس على الالتحاق بالكلية العسكرية كارهين ومرغمين.. إنه أشبه بالإرغام على الزواج بمن لا تعشق ولا تحب، بل وبمن تعافه وتكرهه.
الصور لزملاء في الكلية العسكرية من ردفان ويافع وأبين
الصورة الأولى في الأعلى لـ”جمال فضل القطيبي” من ردفان وكان من أقرب وأعز الأصدقاء..
(4)
الاستجداد الفترة الأولى والأكثر صعوبة في الكلية
كانت فترة (الاستجداد) في الكلية بالنسبة لي فترة عصيبة ومرهقة جدا ومثقلة بالصرامة حيث لا يستطيع الطالب المستجد مغادرة أبواب الكلية..
التمارين والتدريبات العسكرية شاقة وتستغرق ساعات طوال.. ملابسنا العسكرية النظامية تبدو ثقيلة جداً وتضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل والشاق.. وبعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع ..
كنت أشعر وأنا أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية بحرية كبيرة لا تضاهى كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسف بها طويلاً .. أشعر أنني خفيف الوزن كعصفور .. أشعر بلياقة ورشاقة وخفة وزن لم أكن أشعر بها من ذي قبل.. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر ومريح.. خروجي من الكلية إلى المدينة والناس جالبا لسعادة غامرة.
فترة الإستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة وتستدعي من الطالب كثيرا من الانضباط والجلَد..
فترة الاستجداد هي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع..
مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي واختبار مضن يتحول خلالها الطالب من المدنية إلى العسكرية بصرامتها وضوابطها.. مرحلة “الضبط والربط العسكري”.
كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم وهي عبارة عن (فنله) بيضاء وسروال قصيرة أزرق .. كنت أشعر إن ذلك اللباس القصيرة عورة ولا يليق ولكن مع مضي الأيام اعتدنا عليه وكنا نحبذه على الملابس الثقيلة التي كنا نلزم على ارتداءها لساعات طوال في أوقات النهار.
كنت أنا بطبيعتي منزوٍ وخجول.. كانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك القترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، وأحيانا نكررها عند الظهيرة أيضا، خصوصا في فصل الصيف.. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب وكل شخص يغتسل يشاهد الآخر عاريا وكان هذا الحال يضايقني كثيرا وأشعر أنه يخدش حيائي ويسبب لي كثيراً من الخجل ولكن سرعان ما اعتدنا على مثل هكذا حال وصرنا نراه لاحقا أمرا عاديا..
شعرت أن المرء على بيئته ووسطه وما يعتاد عليه.. بإمكانه الانتقال والتكيف في الوسط البيئي الذي ينتقل إليه.
عندما أخرج من الكلية في اللباس المدني كنت أشعر أنني خفيف الوزن كعصفور.
(5)
لا أستريح للحركة النظامية وأكره العقوبات
كانت الحركة النظامية في الكلية العسكرية يومية ويخصص لها أحيانا وقتاً أطول من الحصص الدراسية.. كنت لا أستريح لها وأقع أثنائها بأخطاء طفيفة تعرضني لإحراجات كبيرة أمام زملائي .. كنت استنكرها في أعماق نفسي وكلِّي تطلُّع لأن نتعلم كل ما من شأنه أن يجعلنا مقاتلين صناديد وقادة أفذاذ وليس بما يستحيلنا إلى كائنات استعراضية لا يستفاد منها شيء في ميادين الحرب والقتال.
كنت أكره العقوبات الجسدية في الكلية العسكرية لاسيما ما كان يعرف ب(السحك) وهو أن ينبطح الطالب ثم يزحف على بطنه بمساعدة يديه ورجليه.. كنت أحتقر هذه العقوبات ومن يتخذها.. كنت أشعر أنها تنطوي على إرغام وإذلال.. كنت أشعر أن الآمر بها لديه مركب نقص.. كنت أشعر بأن تلك الأوامر تصدر من شخصيات مريضة.. كنت لا أمانع أن تتم في إطار التدريب العسكري بيد أنني كنت أكره أن يمارسها الآمرون على المأمورين كعقوبة.. وشتان ما بين الاثنين! كنت أكره أيضا عقوبة (الخسارة) التي تطال راتب الطالب وأحس إنها في كثير من الأحيان لا تطاله وحده فحسب وإنما تطال عائلته وأهله في مأكلهم ومشربهم!
كنت أكره العقوبات الجماعية التي يصدرها بعض الضباط الذين كان يخيل لي بأنهم مرضى بالسادية أكثر من كونهم قادة ينبغي جلهم واحترامهم وتقديرهم.. لقد كان القائد المحترم لدي هو ذاك الذي يفرض احترامه بسلوكه الجيد ويقدم شخصيته على نحو يصير معها أنموذجاً، مثالاً، قدوة، يحظى بحب طلابه واحترامهم.
كان إذا صدر خطأ أو صوت ينم عن احتجاج أو عدم رضا أو تململ ناقد أو صوت مشوش من أحد الطلاب في الطابور الصباحي ولا يستطيع الضابط المناوب معرفة مصدره ولا يرغب صاحب الصوت أو من يحيط به كشفه، لا يعمد الضابط إلى الإقناع أو محاولة إيجاد المنطق أو الطريقة التي تحمل هذا الطالب أو من يحيطون به على الاعتراف أو الشهادة عليه، بل يسارع بحمق منقطع النظير إلى عقوبة جماعية كمنتقم ثأري ويصدر أمره الجازم والحازم بعقاب كل الفصيلة أو حتى الدفعة كاملة في بعض الأحيان .. ما ذنب من لا يسمع مصدر الصوت لتناله العقوبة إذاً؟! إذا كانت الجريمة شخصية فما حدث دون ذلك، بل هو مجرد مخالفة بسيطة وشخصية لا يجب أن تطال من لم يعلم ومن لم يسمع الصوت الذي صدرت بسبه هذه العقوبة أو تلك، لطالما تساءلت…!
كنت أشعر إن العقوبات الجماعية انتقام وتدمير وإفساد للقيم والأخلاق.. تنكيل انتقامي ليس له علاقة بالمدنية أو الإدارة الرشيدة بل هي أسلوب نازي وثأري في الأساس وينم عن عُقد ومركب نقص وربما يتحول من يستلذ به إلى خطر مدمر ومستبد إذا ما أمتلك السلطة والقرار .. العقوبات الجماعية أكثر السياسات سوءا ووبالا..
الصورة لصديقاي حبيش والقعقوع وهما من الجليلة ـ الضالع.. كانا من أكثر الطلاب الذين تطالهم العقوبات وبشكل يومي ومتكرر وأحيانا عدة مرات في اليوم الواحد..
لا تملك من تعليق حيالهم ألا فيضا دافقا من العجب يقول : ما أجلدهما.
(6)
قاعدة نفذ ثم ناقش تحوِّلنا إلى أدوات منفذة غير واعية
كنت أشعر إن العسكرية تنطوي على قمع واستبداد وتراتبية صارمة.. كنت اكره بعض القواعد التي يكرسون تعليمها في العسكرية.. كنت أكره تلك القاعدة التي تقول : (نفذ ثم ناقش).. كنت أشعر أن هذه القاعدة تلغي عقولنا وتحولنا إلى مجرد أدوات منفذة بيد من يقودونا لتنفيذ ما يريد ..
كنت أشعر من أنه يجري تحويلنا إلى أدوات منفذة غير واعية وغير عاقلة.. كنت أشعر أن إنفاذ أوامر عمياء قد تجلب ضرراً فادحاً لنا ولغيرنا .. كثير من الجرائم في دورات العنف التي كان يشهدها الجنوب ترجع إلى مثل تلك الفداحات وتلك الأوامر الخطيرة أحيانا..
كثير هم من أنفذوا أوامر جلبت لأصحابها وللناس الهلاك والضرر الكبير.. كثير من إنفاذ الأوامر غير المناسبة نتج عنها مآسٍ مؤلمة وفادحة كان بالإمكان تفاديها لو تم استحضار قليل من العقل قبل تنفيذها والتسبب بنتائجها المدمرة المريرة..
كنت اعتقد بسبب كل ذلك أن التحاقي بالسلك العسكري جاء بطريق الخطأ.. ولكن من أين للمرء أن يدرك عواقب وتفاصيل كل المسارات التي يحلم بها! لطالما يجد المرء واقعا يختلف عن ذلك الحلم المرسوم في الذهن ليكتشف أنه وقع في سوء تقدير كبير.
(7)
تغير في الطباع واكتساب صفات جديدة
كانت شخصيتي خجولة إلى درجة ذلك الذي يخجل من صوته بيد أن الكلية العسكرية بعد مضي قليل من الوقت أزاحت عني بعيدا كثيرا من الخجل الباذخ .. تعودت على الصراخ والصوت القوي الناري.. تشكلت لدي شخصية مختلفة إلى حد ما عن تلك الشخصية المدنية التي اعتدت عليها.. كانت صرخة (أخي) التي يطلقها طالب الكلية العسكرية لأي تمام أو سلام عسكري تحمل في معناها رفض الشعور بالدونية وترفع مقام الطالب أو الجندي إلى مصاف أكبر قائد عسكري على خلاف تلك الصرخة المعتادة في شمال الوطن والتي كان الطالب أو الجندي ينادي بها رئيسه أو قائدة بـ (فندم) وتعني بالتركية (سيدي).
تعلمت في الكلية أن أكون مجتهدا وصبورا ومنضبطا وحريصا على المواعيد .. تعلمت في الكلية النظام والجلد والصمود والخشونة.. تخصصت في المشاة لأن رجل المشاة هو القائد .. جميع القادة يخضعون لقائد المشاة .. قادة الدبابات والصواريخ والمدفعية وحتى الطيران يقودهم رجل المشاة .. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة والقادة الكبار في القوات المسلحة ينتمون لتخصص مشاة .. لعل هذا ما جعلني آثر تخصص المشاة على ما عداه من التخصصات الأخرى .. كنت أردد في نفسي مقولة لينين (الجندي الذي لا يحلم أن يكون جنرالا جندي خامل).
في الكلية العسكرية .. أنا وصديقي العماني الذي كان بنتمي للجبهة الشعبية لتحرير عُمان.
(8)
اعتز بنفسك .. ارفع رأسك .. أنت قائد
كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة وهي واحدة من قوام ثلاث فصائل مشاة، وكان المشرف على الفصيلة عبد الرقيب ثابت وكان يدربنا مادة التكتيك وكان قد حاز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة وأردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة .. كنت معجبا به لأنه كان يعتمد أو يميل للإقناع والإفهام بدلا من سلوك طرق القسوة المذلة التي تهتك المشاعر التي شهدتها تمارس من بعض أقرانه على حساب المنطق ورفع الوعي ..
تعلمت في الكلية العسكرية القيادة حيث كان على الطالب قيادة فصيلته لمدة 24 ساعة كلما أتى عليه الدور بالتناوب لكل عشرين يوم .. لقد بدا لي هذا الدور في البداية صعبا غير أنني ما أن كسرت هذا التهيب في المرة الأولى حتى صار الأمر عاديا إن لم يكن قد أستثار في أعماقي تحدي ذلك الرجل الخجول الذي يتحول إلى قائدا فذا وناجحاً..
من أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية هو قائد الكلية آنذاك أحمد صالح عليوه ..
كان قائد عسكريا وتربويا محنكاً.. كان يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير .. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة والشجاعة وقوة الشخصية.. مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: “طالب اعتز بنفسك .. ارفع رأسك .. أنت قائد .. ” .. كنت معجباً به وأشعر أنه ممتلئاً وأكثر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه.. كنت أشعر أن ذكائه وقدرته وثقافته وحيويته كبيرة وفائقة.. كان رجلاً يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم .. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوا وحطموا ذلك القائد .. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. آه يا بلد.. رجالك المخلصين والقادرين ينتهون إلى الجنون أو الضياع أو الهلاك.
من زملائي طلبة فصائل المشاة في الكلية العسكرية بعدن ـ الدفعة العاشرة 1982
(9)
طعم النجاح لذيذا
طيلة وجودي طالبا في الكلية لم ارتكب مخالفات كبيرة.. كنت كثير الحرص على أن أكون ملتزماً ومنضبطاً.. لا أعرف سلوكا أو تصرفاً مخلاً باستثناء إحدى المرات؛ حيث ما أن كانت الفصيلة تركض في تدريبها حاول أحد زملائي الأشقياء كثير المخالفة والشغب أن يعتدي بلسانه على زميلاً له من الطلاب المنتمين للحزب الشوعي العراقي وكان بالنسبة لي أنموذجاً ومثالاً في السلوك والفهم والأخلاق والتواضع إلى الحد الذي كنت أرى فيه قبساً من نبوة، هذا التصرف دفعني لأن أهب نحو هذا الطالب المشاغب على نحو مجنون لأتشاجر معه بعنف ومن ثم تدخل طلاب لفض الاشتباك فيما بيننا وتم احتواء الأمر وحله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة.
كنت مجتهدا ومثابرا.. ما بذلته من صبر واجتهاد ومثابرة حصدته بالمرتبة الأولى على الدفعة.. “من جد وجد”.. كأنني وجدت كنزاً في عمق نفق شققته بأظافري.. كم كان شعور النجاح غامرا وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول!
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..
حضر حفل التخرج آنذاك الرئيس على ناصر محمد وسلمني جائزة أدهشتني كثيراً بالإضافة إلى أنني كُرمت زيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام بمعية التسعة الأوائل في الدفعة..
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع!
لأول مرة أشاهد السِرك! لأول مرة أشاهد لينين مسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي على لينين نظرة يتمني صاحبها أن تطول وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم العين رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!
لأول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!
الصور في “فولجا جراد” أو ما تم تسميتها “استالين جراد” في روسيا، الاتحاد السوفيتي سابقا..
الصور في 1983 في فسحة زيارة تمنح للعشرة الأوائل من خريجي الكلية العسكرية ـ الدفعة العاشرة ـ عدن
(10)
بعد التخرج
تخرجت من الكلية العسكرية .. ولكن إلى أين ؟! كانت رغبتي جامحة لأن التحق بالجامعة غير أن ظروفي المادية متعسرة و(راتبي) المتواضع الذي كنت أتقاضاه في الكلية العسكرية سينقطع، وأنا لم أدخر شيئا منه وكنت ما أحصل عليه أصرفه أول بأول .. أصرف بعضه وأساعد آخرين وأسلف البعض دون أن أنتظر عودة ما أُسلفه، بل وارفض استعادته في معظم الأحيان.. إنها عادة درجت عليها ولا أعرف عمّا إذا كانت مذمومة أو محمودة ولكن الأكيد إنها عادة أو طبع لا زال يرافقني إلى اليوم.. والأكيد أيضا أن انعدام المال يمكن أن يكون مشكلة أو معضلة تحول دون تحقيق بعض من أحلامنا، أو على الأقل يعمل على تأجيل تحقيقها.
بعد أن تخرجت من الكلية العسكرية في العام 1983 فضلت الالتحاق بلواء الوحدة المُعسكر في محافظة أبين وكان أغلب أفراده وضباطه من القادمين إلى الجنوب من الشمال، أما الالتحاق بغيره فإن التوزيع متروك للحظ الذي يمكن أن يقذف بي إلى أي جزيرة أو صحراء بعيدة أو في أي منأى بعيد ويكون التحاقي بالدراسة الجامعية أكثر صعوبة ويكون الموافقة على تفرغي للدراسة ربما حظ أقل وأضأل .
كان علي أن أعمل على الأقل عامين في السلك العسكري بعد التخرج من الكلية العسكرية لأتمكن من التفرغ للدراسة الجامعية وأحصل على راتب متفرغ يعينني على الدراسة الجامعية.
(11)
قائد فصيلة استطلاع في لواء الوحدة
كان معسكر اللواء يقع على مقربة من عاصمة المحافظة (زنجبار) وكان كثير من أفراده وضباطه من الشمال أغلبهم ممن هرب إلى الجنوب أيام عبد الله عبد العالم وكان قائده اللواء عبد الله منصور من نفس محافظة أبين وكان ذو وجه غضوب وأشعر بالانقباض كلما شاهدته ، فيما كان أركان اللواء عبد الواحد أحد القادمين من الشمال وكان أقدر على القيادة غير أنه كان يتجنب أن يكون قويا أمام القائد وربما كان سلبيا أغلب الأحيان .
وفي لواء الوحدة جاء توزيعي رئيسا لفصيلة في سرية استطلاع اللواء فيما كان الملازم أول محمد الحياني من خريجي الدفعة الثامنة (شمالي) رئيسا للفصيلة الثانية والملازم ثاني سند الرهوة وهو من أبين ومن خريجي الدفعة العاشرة قائدا للفصيلة الثالثة وكان عبده قائد الكهالي (شمالي) رئيسا لسرية الاستطلاع وأضيف للسرية ضابط جديد هو الملازم علوان (شمالي) من خريجي الدفعة الـحادي عشر .. وكان صف الضباط في السرية جميعهم من الشمال ، وكان يسود بيننا كثير من الاحترام والانسجام..
الصورة في لواء الوحدة بأبين.. أنا ومجموعة من الرفاق الضباط.
(12)
عشق الصحافة
في لواء الوحدة كنت أشتري الصحف وأتابع الأخبار وأود أن أعمل في الصحافة ورغبتي في العمل فيها كانت جامحة، ولكن تخصصي كان يفهم بالتكتيك العسكري والتدريب الناري والعلوم العسكرية إجمالا بعيدا عن تخصص الصحافة والإعلام..
كنت أساير رغبتي وأحدث نفسي بأن كثير ممن برعوا واحترفوا في الصحافة ومنهم محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين قد تركوا تخصصاتهم وعشقوا الإعلام وبرزوا فيه وصار كل واحد منهم نار على علم وأكثر، رغم أنهم جاءوا من خارج تخصص الإعلام والصحافة.. ولكن أنا لا أعلم من أين أبدأ.. سؤال تكرر ووجدت مع السعي الطويل والانتظار الأطول أثر قد تحقق، وما تبدد حلم ساعي..
بدأت أراسل صحيفة (الراية) التابعة لوزارة الدفاع في عدن ببعض الكتابات والمشاركات والمواضيع السياسية الدولية بالإضافة للمحاولات الشعرية ومحاولة في كتابة القصة القصيرة..
أذكر من المواضيع الأولى التي نشرتها في صحيفة الراية كانت ضد التدخلات الأمريكية في العالم ومنها الاحتلال الأمريكي لجزيرة “جرندا”..
كنت أتابع أخبار العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. كانت كتاباتي السياسية تنشر في الصفحة الرئيسية المخصصة للشؤون الدولية أما المحاولات الشعرية فكانت تنشر مقتطفات مما أرسل في صفحة بريد القراء باستثناء واحدة أو اثنتين وأحسست إن الشعر عصي عليّ وأنني لست موهوبا فيه بل ولا تتوفر لدي الموهبة حتى في حدودها الأدنى، واقتنعت أنه لا يمكن أن أكون يوما بشاعر رغم أنني كنت أطمح أن أكون شاعرا ولكن (ليس كل ما يطلبه المرء يدركه) فكفيت عن المحاولة رغم أنني ألقيت في أكثر من مناسبة شيئا من تلك القصائد وشعرت أنها تحظى ببعض القبول عند السامعين لها، ولكن كنت أشعر أن قيود الشعر كثيرة ومنها القافية والتفعيلة وأدركني اليأس لاحقا وأصابتني في الشعر خيبة .. أما القصة القصيرة فقد نشرت لي محاولة واحدة في الصفحة الأدبية ولكن خطاء الطباع بتقديم صفحة على أخرى خلافا لترتيبي للصفحات أصابني أيضا بالخيبة، حيث بدأت القصة مشوهة وغير مفهومة الأمر الذي قلل من فرحي بالنشر، وأصابتني بعض الخيبة ولم أحاول كتابة غيرها.
كنت في كل عدد انتظر يوم صدور صحيفة الراية بفارغ الصبر ثم أفتش بصفحاتها بشغف كمن يبحث عن حلمه ومحل نهمه ويرى عنوان ما أرسله من مقالات أو مشاركات.. وعندما أجد مشاركاتي منشورة أعيد قرأت ما تم نشره مرات ومرات إن لم يكن عشرات المرات واكتشف فيها بعض ثغرات ما كتبت أو اكتشف أنه كان بإمكاني تحسين ما نُشر لو كانت تلك القراءة المتكررة قبل النشر لا بعده .. وعند النشر لي كنت أشتري عدة نسخ للأرشفة والاحتفاظ..
ظلت رغبة الصحافة تنازعني حتى صارت بعد سنوات حقيقة وصار لي صحيفة وموقع أشارك تحرير بعض موادهما، ولا زال حلمي يكبر رغم أن الحال والواقع يتكالبان ضدي ويريدان الإجهاز على ما تحقق من حُلم ورغبة.
الصورة لأحمد مسعد القردعي كان مراسل صحيفة الراية في لواء الوحدة ومن يوصل معظم رسائلي إليها.. كان يعشق الكتابة في الصحافة إلى حد الجنون.. لا أدري ماذا أصابه!! لماذا لم أعد أقرأ كتاباته من حوالي ربع قرن أو أكثر.. لا أدري سبب غيبته.. هل هو الموت أم سوء الحظ وعثرات الحياة؟!!
(13)
صاعقة .. شكرا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
طلبت وزارة الدفاع من كل لواء إرسال ضابط أو اثنين إلى اللواء الخامس (مضلات) من أجل إعطاءهم دورة صاعقة وفي لواء الوحدة وقع الاختيار عليّ وعلى زميلي سند.. كانت فرحي بهذا الاختيار كبير وغامر .. وكانت المصادفة إن مدرسة البيروليتاريا التي درست فيها الثانوية العامة والتي تقع على طريق عدن لحج وقضيت فيها ثلاث سنوات قد صارت مقرا لمعسكر اللواء الخامس وهو لواء مستحدث.. صارت المدرسة معسكرا مجهزا بقاعدة مادية جيدة ومميزه.. تم ترميم السكن بشكل كامل واستحدثت بنى تحتية شملت كل الوسائل اللازمة للتدريبات العسكرية للصاعقة والمضلات بما فيها الحواجز الهندسية والحلبات ومتطلبات التدريب الميدانية بالإضافة إلى توفير مدربين أكفاء.. وقد أنيط تدريب الدورة التي نحن فيها إلى مدربين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتدريبنا صاعقة مدة أربعة أشهر.
شعرت أن هذه الدورة قد أضافت لمعارفي معارف جديدة وعلى قدر من الأهمية لطالما تمنيتها من سنوات وكان مدربينا من الجبهة الشعبية أكفاء ومحترفين ويحملون وعيا ونضجا ومعرفة فارقة جعلتنا نحترمهم ونقدرهم في نفوسنا ونبذل مجهودا كبيرا لنيل رضاهم من خلال مزيدا من بذل الجهد والتعلم والانضباط..
أحببت هؤلاء المدربين كما أحببت من خلالهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيسها جورج حبش الذي كانوا يسمونه بـ (الحكيم)..
أحببت المدرب أبو علي الذي تعلمنا منه معارف عسكرية لم يكن يعرفها الجيش اليمني من قبل.. كانت مادته جديدة ومتميزة وداهشة.. كنت أكثر من الأسئلة المتكاثرة وهو يجيب ويعرِّج على أشياء فيها كثير من الدهشة تضيف لنا كل يوما فرقا في المعرفة العسكرية.. فيما هو كان يعتبرني تلميذا نجيب.
أحببت المدرب (أبو فراس) والذي كان يدربنا تدريبا ميدانيا عنيفا .. فيه الاشتباك والركض وتجاوز الحرائق واالحواجز الهندسية والمعوقات الطبيعية.. الخ ..
الصورة الملون الأول على يسارك يظهر فيها المدرب الفلسطيني أبو علي.. أحببته.. كان أكثر من رائع.. كان لي مثال.. كان يشرح لي تفاصيل التفاصيل.. لازلت أتذكر كل دروسه إلى اليوم..
الصورة الأسود والأبيض للمدرب الفلسطيني أبو فراس مدرب حلقة الركض والاشتباك والميدان.. علمت أن أستشهد في جنوب لبنان في الثمانينات..
(14)
استماته من أجل الحياة
في دورة الصاعقة أذكر أنني كنت أركض في حلبة (الصاعقة) حتى أكاد أتقيء ولكنني كنت أصمد على نحو لم أكن أتوقعه.. وفي اقتحام الحواجز كان علينا تسلق جدار ارتفاعه أكثر من أثني عشر متر وأنت تحمل سلاحك وكل عدتك العسكرية الشخصية.. لا يساعدك في هذا الصعود غير حبل مربوط في رأس الجدار..
أذكر أنني في إحدى المرات كدت أن أسقط قبل أن أصل إلى سطح الجدار.. خارت قواي إلى درجة تصورت إن الأمر سيان بل أن السقوط مريح أكثر من إكمال ما بقي من ارتفاع الجدار وهو قليل..
داهمني فتور شديد .. قدماي لم تعد تقوى على الصعود ويداي تقاوم السقوط وبطن كفوفي تكاد تنفطر دما وهي قابضة على الحبل، ولكني أيضا كنت أعي إن السقوط إذا ما حدث أو تخاذلت يداي من الاستماتة بإمساك الحبل وإكمال الصعود إلى السطح سيكون مميتا وفي أفضل الحالات ربما يسبب لي عاهة مستديمة، هذا الوعي وغريزة البقاء التي انتفضت داخلي وإفراز الجسم لمادة (الأدرينالين) في مثل هذه اللحظة الخطرة جعلتني أغلب هذا التحدي..
استمت في الصعود وتجاوزت الخطر ووصلت إلى سطح الجدار حتى بدا لي الأمر وكأنني اجترحت معجزة.. خضت في ذلك الصعود تحدي حقيقي ومغالبة أحسست أنه بإمكاني انتزع الحياة من لحظة خطر محققة.. أحسست أن بين الموت والحياة لحظة وقرار..
تعلمت أن بين أن أنتصر أو أُهزم قليلا من الجلد والصبر في برهة زمن حاسمة.. بين أن أكون غالبا أو مغلوبا قليلا من التحدّي والصبر والاستماتة من أجل الحياة والأمل..
تذكرت هذا الدرس في نفس الدورة وأنا أعاصر أحدهم بالذراع والكف لنرى من الأقوى والأكثر جلدا وصبرا وغلبة.. من الذي باستطاعته أن يسقط يد الآخر ويغلبها.. كان هذا التحدي أشبه بالمبارزة وأمام شهود ومشهد من الناس، وكان بين انتصاري وهزيمتي برهة زمن ولحظة صبر..
الصورة لبعض الضباط في دورة الصاعقة والتي استغرقت أربعه أشهر..
(15)
تفوُّق مرة أخرى
تذكرت الجدار، فغالبت حتى أستسلم وأسقطت يده ولو صبر برهة زمن ربما لأنتصر هو وكانت هزيمتي.. هذا ما قلته له عقب المبارزة.. ولذلك أجد نفسي في أحايين كثيرة أتذكر مغالبتي للجدار في كل محنة فيها صبر ومغالبة.. إن ما بين النصر والهزيمة تكون في أكثر الأحيان لحظة أو برهة زمن أو شعرة رفيعة فاصلة..
وعلى نفس النهج تعاطيت مع التفوق وما دونه.. اجتهدت وثابرت وبذلت جهد مغالب حتى أحرزت المرتبة الأولى في الدورة وتم تكريمي من قبل نائب رئيس هيئة الأركان العامة آنذاك عمر العطاس على احتلالي للمركز الأول في الدورة التي استغرقت أربعة أشهر..
في هذه الدورة العسكرية أمعنت في تعلم أهمية الجلد والصبر والمغالبة والانتصار..
كما تعلمنا أيضا في هذه الدورة كيف نصارع الموت خلف خطوط العدو ونصرعه..
تعلمنا كيف نشتبك مع جنود العدو بالسلاح الأبيض عندما تنفذ ذخيرتك..
كيف نشتبك مع العدو ونحن عزل .. كيف نأكل عندما لا نجد ما نأكله ..
تعلمنا كيف نفترس الأرانب والضفادع .. كيف نعظ ونأكل الثعابين .. كيف نعبر الوحول والمستنقعات عندما يكون العبور ضرورة أو لمصلحة لك ولأفرادك وقواتك..
كيف نكسر المستحيل ونحوله إلى ممكن وانتصار.. كيف نكون أوفياء للأرض التي نقف عليها .. كيف ننتصر لها عندما تحتاجنا وتستغيث بنا ولا نبخل عليها بدمنا وأرواحنا..
لازال صوت أبو فراس يرن بإذني ووجداني وهو يقول :” أوصل شريانك للأرض عندما تعطش هذه الأرض وتحتاج تضحيتك.. لا تتردد ولا تبخل أن تسقيها دمك” بعد عام أو أكثر علمت أنه أستشهد في لبنان في معركة مع المحتل الصهيوني.
بعد انتهاء دورة الصاعقة عدت للواء الوحدة .. بدأت أتابع من أجل الالتحاق بكلية الحقوق في جامعة عدن ولكن مرت السنة الأولى دون أن أتمكن من الالتحاق بالجامعة لأنه يتوجب مرور العامين بعد التخرج لمنح التفرغ وأن يكونا هذين العامين قد قضاها طالب التفرع بالخدمة الفعلية..
(16)
في حضرت جار الله عمر
وفي العام التالي كان السؤال: من يساعدني؟ لا فرصة في الإعلام .. لابأس من الحقوق.. ذهبت إلى اللقاء بجار الله عمر في منزله..
سبق أن زرت جار الله في بيته قبل هذه المرة عدة مرات وفي كل مرة كان يشعرك بحرارة ودة وحفاوة استقباله حتى وإن كان عمرك خُمس عمره..
زرته في أحد المرات حال ما كان عمري دون لـ 17 سنة.. شاهدت في بيته مكتبه كبيرة لا يساويها إلا تواضعه الجم.. كان استقباله لي حارا جدا وتعامل معي بندية وتقدير رفيع.. أهم انطباع خرجت به أنه لا يكذب ولا يخلف وعدا.
كنت أقارنه بالمسؤول الأول الذي بدأ لي الفرق بينهما مثل فرق الثراء والثريا.. هذا المسؤول الذي كان صديق أخي في حياته وجدته متعاليا جدا وينظر للناس شزرا .. كان يتجاهلني إلى حد الاستفزاز والقرف.. إذا ذهبت إلى بيته كان يستقبلني بوجه عبوس مكفهر ومستفز للأدمية وإذا زرته إلى مكتبه صافحني بيد من ثلج وصقيع.. كل مرة كان يسأل عن اسمي وكأنه مصاب بمرض الزهايمر، ثم أعرفه بنفسي وهو يعرفني جيدا ولكنه ثقيل الدم ولئيم الطباع.
جار الله عمر كان شيئا مختلفا.. كان ودودا وخلوقا وممتلئا ومتواضعا ومتميزا ..
في اللقاء الذي قصدته في منزله بخور مكسر أبلغته أنني أرغب بالالتحاق بكلية الحقوق وأنه قد مر عام والعام الثاني على وشك أن يمر، وأن اشتراط مرور العامين بعد التخرج من الكلية العسكرية يكاد أن يتم ولا أريد أن يمر هذا العام لأقضي عام ثالث في الانتظار، وأنني قد رفعت طلب آخر للوزير أخشى أن يهمله أو يتجاهله وأن رغبتي للالتحاق بالكلية جامحة وأخبرته أني متفوقا في دراستي، وطلبت منه التواصل بوزير الدفاع صالح مصلح، فرفع السماعة وأتصل مباشرة للوزير وأخذ موافقته على الفور ووعدني بمتابعة الموضوع وأوفى بوعده وكان يبر بالوعود وجاءت الموافقة على طلبي لتبلغني قيادة اللواء بالخبر..
كدت أطير من الفرح وهم يبلغوني بالموافقة.. شعرت إن المستقبل يبتسم لي وإن الآمال تتحقق.. غير أن الأهم إن هذا التفرغ والدراسة أنقذاني من موت محقق وأكيد..
(17)
وجه من 13 يناير
لقد جاءت أحداث 13 يناير 1986 وأنا متفرغاً للدراسة سنة أولى كلية الحقوق وقد كانت لي تجربة ومواقف في هذه الأحداث سأذكرها في موضع آخر ولكن سأذكر هنا الشطر المتعلق بلواء الوحدة.
بعد أسبوعين من بداية الأحداث زرت اللواء ووجدت كل أصدقائي تقريبا قد تم تصفينهم ضباط وصف ضباط وجنود.. إلا ما كان في حكم النادر.. قتلوا البعض في وادي حسان وبعضهم في السجون والزنازين وبعض آخر في معسكر اللواء.. تم تصفية الكثير منهم لمجرد انتماؤهم الجغرافي للشمال أو للضالع أو ردفان أو يافع .. بعض من تم تصفيتهم كان لا يهتم ولا يكترث بالسياسة ولا تربطه رابط بها، ولكن حتى هذا لم يشفع لهم أو يخفف عنهم .. وتمت تصفيتهم دون تردد.
عند زيارتي للواء شعرت بالأسى والوحشة والحزن العميق .. شاهدت أثار الدماء على أرض الغرف والجدران .. بقايا شعر رؤوس آدمية هنا وهناك وبعضها لا زال ملتصق بجدران الغرف وآثار الرصاص لا زال شاخصا .. ملابس عسكرية ومدنية عليها الدماء مرمية على الأرض .. رائحة الدم كانت لا تزال نفاثة .. الممرات تحكي إن الموت مر من هنا .. الموت صال وجال هنا وهناك .. الوحشة تسكن الأمكنة والزوايا .. والمجازر قابلتها مجازر من الطرف الآخر واكتظت الأرض بالضحايا..
الملازم علوان من أبناء محافظة إب كان في نفس سريتي وأيضا جاري في السكن بعدن وهو من خريجي الكلية العسكرية الدفعة الحادية عشر .. أصيب بطلقة في خاصرته عند محاولة الهرب من مصير أكيد وموت محقق لا يفصله عنه غير ساعة زمن أو أقل من ساعة.. نجا بأعجوبة ..
جاء في روايته إن لم تخنِّ الذاكرة:
أخذونا من السجن مليان بابور بعد أن ربطوا أيدينا إلى الخلف وجميعنا من أبنا الشمال ويافع والضالع وردفان .. كنت أشعر أنهم يريدون تصفيتنا، وكنت أحك الحبل الذي يقيد كفاي إلى نتوء في البابور .. وكان الوقت ليلا والظلام دامس ..
في الطريق تأكدت أنه سيتم تصفيتنا في وادي حسان.. وبعد جهد جهيد استطعت أن أمزق وثاقي بذلك النتوء الذي ظللت أحك وثاقي به .. كان بعض الزملاء بعد أن عرفوا وجهتهم وإن الموت صار قريب .. بعضهم يبكي وبعضهم يترجي ..
أحد الضباط اسمه نصر من أبناء ردفان وكان يغلب عليه حسن النية بعد أن أدرك أنه ذاهب إلى وادي حسان وإن هناك الموت ينتظر، طلب منهم التفاوض وهو يضطرب.. كان أشبه بغريق يحاول أن يمسك بقشة .. ولكنهم سخروا منه ومن طلبه .. الضابط نصر واحد من الطيبين والذين لا يعيرون بالا للسياسة ..
الكلام لا زال لعلوان: أنا الوحيد الذي استطعت تمزيق رباطي والقفز من فوق البابور فتداركوني بإطلاق النار وأصبت برصاصة في خاصرتي وثانية في يدي وكان الظلام كثيف واستمريت بالركض وأنا أنزف ولم يستطيعوا اللحاق بي وقد ساعدني الظلام على الهروب.. عصبت جرحي بقميصي وأمضيت ساعات طويلة في الركض وأنا أنزف في الصحراء حتى وصلت إلى منطقة العلم بين عدن وأبين وهناك أغمي عليّ حتى وجدتني قوات الاتجاه الآخر فتم إسعافي ونجاة حياتي..
هناك روايات فاجعة كثيرة .. زميلي الملازم أول الحياني كان ضمن آخرين محشورين في غرفة بلغ عددهم فيها أكثر من ثلاثين جندي وضابط .. تم إطلاق النار الكثيف عليهم وقد أصيب بالرصاص ولكن لم يمت .. فجاء أحدهم ورمى بقنبلة إلى الغرفة لتقضي على الناجين..
هناك قصص مروعة كثيرة أرتكبها طرفي الصراع وسوف أسلط بعض الضوء على بعض تلك الجرائم التي أقترفها الطرف الآخر في موضع آخر .
صور بعض الزملاء في لواء الوحدة بأبين
خطوة أولى
في كلية الحقوق
(1)
لازال أمامي من السنوات أربع .. هأنا أدلف باب مسار جديد في حياتي. نقطة تحول جديدة ربما تنتهي في أغلب الأحيان إلى مهنة المحاماة أو القضاء. في كلا الحالين أروم العدالة ورفع المظالم عن الناس ما استطعت. لا زال ذلك الصوت الذي يقول: “يا ما في السجن مظاليم” يرن على مسامعي وصوت الظلم على المسامع لحوح وثقيل.
كنت كرغبة أميل للمحاماة أكثر من ميلي للادعاء. وكان ميلي للقضاء أكثر لأن تحقيق العدالة متعلقة به، القاضي أسرع بتا في الخصومات أو هذا ما يجب، القاضي هو المعني الأكثر في تقرير الحق وإنصاف المظلومين ورفع الظلم عن كواهلهم. سلطة القاضي يمكن أن تكون طريق إلى جنة الضمير وعلى نحو أسرع وأوجز.
ربما بدا لي الحال هكذا في البداية. ساجلت صديق وما لبثت أن رأيت إن في الأمر ترابط وتكامل. يجب ألا انتقص من مهنة لصالح أخرى فيما النتيجة الأفضل تقررها المهن الثلاث. فالقاضي والادعاء والمحامي جهود متكاملة تحقق في مجموعها العدالة المرتجاة.
حدثت نفسي وقلت: إن المهم أن أجدُّ واجتهد، ولازال أمامي من السنوات أربع لاختار، نعم لا زال الأمر بعيد إن كان للاختيار متسع.
(2)
أنا صاحب القراطيس
في أول يوم دخلت كلية الحقوق شعرت أن حياة جديدة تنتظرني. شعرت أنني أقبل على حياة أعيشها أول مرة. شعرت إن الاختلاط كان حلما بعيد المنال، وتمنيت أن يتم التظاهر من أجله في المرحلة الثانوية احتجاجا لغيابه في مدرسة البروليتاريا، وعندما ولجت السلك العسكري أدركني اليأس أن أجد يوما اختلاط مما حلمت به، ولكن ها أنا اليوم أقبل عليه لأول مرة. هنا سيتحقق الحلم وأفوز بقلب فتاة أحبها وتحبني.
كم هو سعيد أن يفوز المرء في الجامعة بفتاة يحبها وتحبه. كم هو رائع أن تجد ما يدفعك لأن تذاكر وتتفوق لتلتفت إليك عيون فتاة.. كم تشعر بالرضاء وأنت تثابر من أجل أن ترى كل يوم جمال ورقة وحياة تنبض بالنور والأمل.
ولكن خبرتي في الحب وأسر القلوب تقول أنني فاشل مع مرتبة الشرف. فبدلا من أن أشتري دفاتر أنيقة لتدوين الدروس والملاحظات اشتريت سجلات “دكاكين”. تميزت بهم وفوق ذلك تميزت أنني كنت أضعها كل يوم في قرطاس “كاكي” جديد لأن القرطاس السابق يتلف من استخدام يوم واحد بسبب عدم الرفق به من قبلي ومن قبل السجلات التي تكتظ داخله..
كما كانت طريقة تعاملي مع السجلات وأكياس “الكاكي” تعامل عسكري يمارس الجلافة بعيدا عن الرقة والإتكيت. وكانت بعض الطالبات يسمينني في همساتهن الخاصة فيما بينهن بـ”صاحب القراطيس”. وأحيانا كنت أضع قرطاس بداخل قرطاس بعد أن ينبعج الأول في أحد أركانه أو يشتط بسبب جلافة إدخال السجلات إلى داخله.
كنتُ أحب أن أكون مميزا ومنفردا في أمور شتى، ولكن بهذه السجلات وهذه القراطيس كان تميزي أشبه بتميز فطوطة ببنطاله وقميصه..
لقد فكرتُ بالتحرر من هذا الوضع في هذه الجزئية بشراء حقيبة جلدية ولكن كان طول السجلات أطول من طول الحقيبة، كما أن الحقيبة ضيقة ولا يمكن أن تستوعب أربعه سجلات أو أكثر.
فكرت بحقيبة دبلوماسية ولكن كانت واقعة صديقنا محمد صالح “من يافع” والمنتدب من وزارة الداخلية للدراسة في كلية الحقوق تمنعنا من أن نكرر ما فعل.. في الأيام الأولى وقبل أن نتعرف على طاقم التدريس جاء محمد وكان عمره كبير نسبيا مقارنة بنا .. جاء في بدلة مهابة ونظارة بيضاء ويحمل حقيبة دبلوماسية وفيها كراريسه وما أن دخل القاعة دخلنا بعده نتزاحم ونظن أنه الأستاذ وإذ نجده يحجز كرسي في القاعة وعند سؤاله اكتشفنا إنه طالب وليس دكتور. ففقشنا الضحك..
(3)
“نور” اللحجية الجميلة
في سنة أولى كانت “نور” الأكثر جمالا ودهشة.. نور تنتمي لمحافظة لحج .. لم أكن أعلم أن في لحج كل هذا الجمال المكنوز.. كنت أختلس النظر إليها كلص خائف من كل العيون.. كثير هي تلك العيون التي كانت تلاحقها وكنت أشعر أن أكثر العيون تراقب كل شيء..
كنت أجلس بقاعة المحاضرات الرئيسية في أول الصف، فيما كانت هي أغلب الأحيان تجلس آخر الصف أو في مؤخرة القاعة في الاتجاه الآخر.. كنت أحرج أن أجلس آخر الصف وأشعر بخجل أن أزاحم الهائمين عليها وهم كُثر. كان كبريائي وخجلي يحولان أن لا أبدو أمام الآخرين طائشا أو مراهقاً يشبه الصبية الغر في التصرفات المتهورة أو الغير محسوبة.
كان الأستاذ إذا سأل الطالب سؤال أو أجاب الطالب على سؤال الأستاذ وكان موقع الطالب أو الطالبة في الوسط أو المؤخرة أقتنص الفرصة وأوهم العيون أنني أهتم للسؤال أو الجواب فيما أنا في الحقيقة أختلس نظرة عجولة من وجه “نور” كنت أنحني برأسي كالحلزون لأرمقها وأسرق نظرة على حين غفلة من الزمن والعيون..
كنت شديد الحذر من أن ترمقني أحد الأعين وأنا أصوب سهامي نحو نور فيما هي مشغولة في دائرة أضيق من الجوار..
كنت شديد الحذر وأنا أتحاشا العيون لأصل إلى عين نور.. كان حذري يشبه حذر جندي الهندسة الذي يسير وسط حقول الألغام.. ولكن هم يفعلون ذلك من أجل نزع الألغام أو فتح ثغرة فيها، فيما أنا أهدف إلى اختلاس نظره من جمال الله وابداعه في نور.. إنها نظرة عاشق ولع كتوم.
نور اختفت فجاءة ولا أدري أين ذهبت!! نور لم تعد تأتي إلى الكلية كل صباح.. يبدو أن نور غادرت الكلية للأبد، ولكن لا أدري إلى أين!!
نور كانت الجمال والدهشة .. نور كانت نور على نار..
(4)
الاعتزاز بالفقر
في كلية الحقوق كان أغلبنا قادم من الريف.. كنّا فقراء.. كانت الدولة توفر للمعوزين السكن والتغذية فيما الذين لديهم سكن في عدن كانت الدولة توفر لهم المواصلات، أما التعليم فمجاني للجميع ورسوم التسجيل السنوية رمزية جداً لا تستحق الذِّكر..
كانت قيم الاشتراكية العلمية تستحوذ على عقولنا.. كنّا نعتز بفقرنا إلى حد بعيد.. كنّا ننظر بازدراء لمن يملكون سيارات ويأتون بها إلى الكلية، وهم إجمالا لا يتعدون عدد أصابع اليدين، وعلى قلتها كنّا نحن من يتعالى عليهم بفقرنا لا هم .. كنّا نعتبرهم برجوازية صغيرة.. كنّا نعتبرهم خطراً محتملا على المستقبل وعلى الفكر الصحيح.
(6)
وعي ومعرفة
الدراسة في كلية الحقوق كانت مختلفة عمّا عهدناه من قبل.. الدكتور يلقي علينا محاضرته شفاهه، وكان علينا أن نلاحق تدوين ما يقول، وفي أكثر الأحيان لا يعيد ما قال.. كانت يدي ثقيلة تتصبب عرقا، وكانت هيئتي وأنا أهرع بعد كلماته أشبه براكض متعثر في سباق الضاحية.
كنت أغبط الطالبات لأنهن في هذا السباق جياد.. كانت بعض المفردات تفوتني أو تطير منّي فتضيع الجُمل وتشرد العبارات ولا ألحق تدوينها، ثم أحاول التجاوز بفراغ أحيانا يطول سطر أو أكثر، ثم أعمد عند وقت الفراغ إلى إعادة القراءة ووضع المقاربات، فإن أستحال الأمر أو أُشكل فزميلاتنا لمثل هذا الفراغ رسم ومراجع.
كان الدكتور يسجِّل لنا عقب كل محاضرة مجموعة من المراجع، وعلينا قراءة كل ما فيه صلة بالموضوع، ثم في موعد “السمنار” كل يستعرض مفهوميته.. وكانت تتبع الكلية مكتبة وفيرة بالمراجع والكتب.
كان كل موضوع أو درس يمر علينا يستمر معنا حتى تكتمل دورته حيث تبدأ بالمحاضرة، ثم قراءة المراجع ذات الصلة، ثم السمنار أو المناقشة، ثم الاختبار، ويتوج في الامتحان مسك الختام، وتكون النتيجة هي الخلاصة أو المحصِّلة.
كانت الجامعة في عدن بكلياتها المختلفة تصنع وعيا وابداعا وفكرا وثقافة..
الوجه الآخر لأحداث 13 يناير 1986
(7)
كريتر مقسومة بين فريقين
ظلت الأخبار التي تتوارد وتصل من “فتح” التواهي إلى كريتر تتضارب حتى وصلنا إلى خلاصه أن الوضع بين الفريقين قد أنفجر..
ونحن مجفلين سمعنا انفجارات بعيدة.. شاهدنا أناس يتوافدون ويتسلحون من مبنى يقع خلف بريد عدن.. شاهدنا الطابور يزداد ويزدحم أمام المبنى .. أردنا أن نتسلح دون أن نعلم هذا التسليح تابع من!! رأينا أنه لابأس أن نتسلح أولا لحماية أنفسنا وبعدها سيكون لنا موقف وكلام.
وفي الطابور شاهدت جعفر المعيد في كلية الحقوق يستلم سلاحاً وذخيرة.. تصافحنا.. ثم شاهدت أحد أقاربي في الطابور المزدحم.. فهمت أن هذا المركز تبع أنصار فتاح وعنتر.. فيما كان معسكر عشرين المركز الرئيس للمليشيا الشعبية في نفس كريتر تابع الولاء لعلي ناصر ويبعد بحدود كيلو متر واحد من المركز الذي نستلم السلاح منه.
يا إلهي!! كريتر صارت مقسومة بين فريقين!! ثم عرفت أن “الباخشي” قائد المليشيا الشعبية في معسكر عشرين ولاؤه لفريق، فيما الأركان باسلوم ولاؤه للفريق الآخر..
يا إلهي !! ليست كريتر وحدها مقسومة قسمين ولكن أيضا القائد والأركان.
أستلمنا سلاح وذخيره واتجهنا إلى عزبه فيها أصدقاء قريبة من نفس المكان وبعد قليل صعقنا البيان من الاذاعة وخلاصته محاكمة وإعدام عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع بتهمة الخيانة.
أغاضنا هذا البيان وكانت الصدمة كبيره.. تسألت: متى كانت الخيانة؟! ومتى تمت المحاكمة؟! ومتى تم تنفيذ أحكام الاعدام؟!
وكان السؤال الأهم من بدأ بإشعال الحريق؟!
كنت أعرف أن هناك ما يشبه العهد بين الفريقين في المكتب السياسي، وفي العهد أن من يبدأ باستخدام السلاح في حسم الخلاف خائن، ولكن يمكن للمرء اللبيب أن يستخلص أن في الأمر خدعة، وأن البادئ من نفذ الإعدام والبادئ أظلم.
(8)
“أمل” الحب في الحرب سلام وحياة
في العزبة التي لذت إليها كان قلبي قد تعلق منذ مدة بفتاة بالجوار.. إنها صدفة أن تجد نفسك في الحرب جوار من تحب..
فتاة لازلت زهرة دون الـ 18 عام بقليل.. كانت مراهقة وكنت ولوع برؤيتها كلما أمكن..
أذكر أنني كنت في زمن السلام أقف بعيدا وعندما تتسلق جدار حائطهم أندفع من بعيد نحوها لأرها وتراني فيما أحاول أن أداري شوقي ولهفتي أمام أصدقائي حتى لا يقطع الخجل مجيئي..
كنت أخترع عذرا لأصدقائي في العزبه في كل مرة أزورهم فيها، غير أن الهدف الحقيقي من مجيئي في كل زيارة هو أن أراها وتراني..
كانت فتاة جميلة.. كنت عندما آتي إلى عزبة الأصدقاء أحاول أن أرمقها إن مرت أمام النافذة.. وكانت زياراتي في بعض الأيام تحمل خيبة كاملة.. انتظرها فلا تطل ولا تمر..
كنت أتي إلى العزبة من بعيد من أجل أن أراها وأنا غارق بالشوق ولهفتي تسبق أنفاسي وخطواتي تتمرد على موانع وإيقاعات الضبط .. كتبت لها واستضفتها لاحقا وكان لنا قصة ولكنها لم تتم.
كان جمالها يافعي وسمرتها تحمل من الجاذبية سر وسحر وفتنة.. جميلة الروح وآسرة الطلعة.. وجهها ينضح بالوسامة الأخاذة في تفاصيله وإجماله.. كانت ممشوقة القوام وبهية وتنفذ للقلب كغيمة يملاها المطر.. إنها آية ليست مثلها آية..
كنت سعيد أن أجد نفسي في مكان قريب منها.. صارت تهمني أكثر من الحرب.. الحب في زمن الحرب قبس من نبوة السلام والحياة.. غير أن المسؤول على المنطقة المتمركزين فيها طلب منَا أنا وآخرين ترك المكان الذي نحن فيه والتوجه إلى سطح إحدى العمارات على الشارع الذي يمتد أمام البريد.. فيما جندي من أبناء ردفان أمره أن ينتقل إلى رأس المنارة التاريخية القريبة ليكون نقطة رصد ومراقبة.. كان جنديا شجاعا وكان الموت يتهدد حياته بالقنص.
(9)
“آه يا عيالي”
كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث 13 يناير1986مقارنة بغيرها حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع..
خلال هذه الأحداث لم أشترك في أي اشتباك أو قنص، ولم تخرج رصاصة واحدة من فوهة بندقيتي باستثناء مرة واحده للدفاع عن النفس في ليلة اليوم الثالث من الأحداث، حيث صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحام العمارة من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى مدخل كان يؤدي مباشرة إلى خلف العمارة “الجلِّي” وبدأت أطلق دفعات الرصاص نحوه، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.
بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس وتحديدا إلى شقة سالم معروف وهي قريبة من المصرف اليمني وسط كريتر على إثر مقتل شخص من فريقنا وهو من أبناء منطقة الجليلة ـ الضالع ـ وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله ومن ثم المرابطة بالشقة التي أنتقلنا إليها.
وجدنا المقتول ممدا وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة ووجدنا جواره ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة القريبة من مركز البريد.. كان الردفاني موجودا جوار هذا الرجل الذي تم قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ” آه يا عيالي”
هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب في رأسي .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. ساحت الدموع من عيوني غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد دامي ومأساوي كهذا.
(10)
قذيفة مدفعية على بعد 50 مترا
كانت الاتصالات مقطوعة والماء أيضا.. شاهدت من نافذة الشقة الأطفال والنساء وهن يجلبن الماء ويتزاحمن على مورده في المكان المقابل.. شاهدنا السكان يتكيفون مع ظروف الحرب ويعتادوها.. رأيت الناس يحاولون أن يشقّون في زحام الحرب طريقا للبقاء والحياة..
كنت مرهقا حيث لم أنم الليلة السابقة، ولا نهار ذلك اليوم.. وضعت يدي على رأسي ووجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل وكأنه ليس بعض مني.. حاولت أنزع نتفا أخرى لأتأكد ما الأمر فوجدته بيدي دون أن أشعر بأنه كان نابتا في فروة الرأس.. قررت أن أتركه ولا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة أصلعا وقلقت من احتمالية أن لا يعود الشعر المتهالك من جديد.
في الليل دوى انفجار قوى ولكنه كان في منطقة بعيدة نسبياً وبعد نصف ساعة دوى انفجار عنيف آخر ظنناه أنه أصاب العمارة المتواجدين فيها، وعند اطللنا من النافذة على الشارع وجدنا أنه انفجار قذيفة مدفعية أصابت الجزء الأسفل من مبنى مصرف اليمن والذي لا يبعد عنا أكثر من مسافة خمسين مترا. أدركنا أن هناك تصحيح للإحداثيات، وتوقعنا أن تقع القذيفة الثالثة فوق رؤوسنا، ولكن رفق بنا القدر ولم يتم معاودة القصف تلك الليلة.
(11)
يوم اكتشاف نصف الحقيقة
يوم 18 يناير فريق ينتصر فيما الفريق الآخر يخسر المعركة.. الفريق المنتصر أطلق على المهزوم “زمره” فيما أطلق الفريق المهزوم على المنتصر مصطلح “طغمه” هكذا سمّى الرفاق بعضهم..
18 يناير كان يوما فارقاً.. من ألتحق بالفريق المنتصر يوم هذا التأريخ وبعده كان ينظر إليه أنه تحصيل حاصل لا يضيف شيئا لقائمة المنتصر، بل يرونه كمن ركب موكب الانتصار بدافع المصلحة، ولم يكن له أي دور في حسم المعركة أو تقرير مصيرها.. هكذا سمعت يومها المنتصرون يتحدثون.
تم نقلي إلى ساحة مكاتب خلف بريد عدن في تاريخ 18 يناير وكان هذا اليوم بالنسبة لي مختلف، حيث اكتشفت فيه نصف الحقيقة..
كان المنتصرون يعتقلون المهزومين والمشتبه بالانتماء لهم.. سمعت أصوات تستغيث وتطلب ماء من أحد الأماكن المغلقة الأبواب.. لم أكن أعلم أنه يوجد معتقلين.. لم أكن أعلم أن خلف الباب ناس يهددهم العطش بالموت.. فتح السجان الباب وكانت مفاجأتي بمشاهدتي الاكتظاظ.. من وقف لا يستطيع الجلوس مرة أخرى إلا بشق الأنفس بسبب الزحام الشديد وهذا الاكتظاظ المميت.. عندما تم فتح باب هذا المعتقل كنت كأنني أشاهد فتح علبة تونة أو علبة لحم مفروم .. يا إلهي ما هذا؟! شيء غير معقول.. شيء لا يصدق.. يا إلهي هل أنا في حلم أو علم.. الكل يستغيث يطلب ماء .. قطرات الماء هنا صارت كل الأمل لكل معتقل.. فتح بوابة السجن لبرهة ربما أيضا تنقذ البغض ممن يكاد يموت اختناقا.
ثارت انسانيتي داخلي.. إنه مشهد بالنسبة لي غير مألوف بل صادم وغير مسبوق وغير متوقع أنني يوما سأشهد مثله.. هرعت لأحضر لهم الماء.. كدت أعترك مع أحد السجانين الذين كان يمنعني أن أمكنّهم دبة الماء.. كان يحاول يمنعني بالقوة من أيصال الماء إليهم.. كان يقول لي : “هؤلاء أجبروا رفاقنا أن يشربوا من البلاليع”.. كنت نفسيا مهيّاً أن أفعل أي شيء من أجل أن أغيث هؤلاء بالماء.. كنت مهيا لكل الاحتمالات إن تم منعي بالقوة.. نعم كنت مهيأ نفسيا لأن أفعل أي شيء.. حتى من عارض إيصال الماء للمعتقلين كان يدرك مقدار انفعالي، ولذلك تمكنت من أيصال الماء إليهم.. نعم لقد نجحت وأوصلت الماء إلى المستغيثين.. أحسست أنني نجحت في رسالة تشبه رسالة نبي أغاث القوم دون أن يقتل أحد.. نجحت في إغاثة قوم محشورين في مساحة لا يزيد طولها وعرضها عن سبعة متر في سبعة..
كريتر صارت واحدة وبيد فريق واحد ولكن صار كل ما فيها ممزق.. جروح غائرة وموت وبكاء واعتقالات..
ثم شاهدت معتقلين جدد يأتون بهم إلى غرفة تحقيق تقع على مسافة قريبة.. سمعت وقائع محزنة عن كيفية الاعتقال من قبل من يقوم بالاعتقال.. كانوا يتفاخرون ببعضها.. كانت حملات التفتيش والمداهمات للبيوت على أوجها.. كنت أتفجر وأنا أسمع الحكايات.. هذا يداهمون بيته وينزعونه من مخبأه داخل دولاب في غرفة النوم، وهذا ينتزعوه من تحت سرير النوم.. وهذا من تحت الدرج أو من الحمام أو زاوية مهملة في البيت.. وكل هذا يتم وسط فجيعة الأهل وصراخ الأطفال.. تذكرت ذلك التفتيش الذي حصل يوم لبيتنا في القرية من قبل حمله أمنية بعد مقتل أخي وكان أخواني الصغار قد انزاحوا مجبرين إلى إصطبل البقرة والحمار ولكن ما أن انتهوا من تفتيش البيت حتى أتجهوا نحو أخواني الصغار في الاصطبل لتفتيشه وهو مستقل عن المنزل، فصرخوا أخواني بالبكاء الهلع والفجيعة.. صراخ جعل القائمين على الحملة يحجمون عن تفتيشه والاكتفاء بتفتيش منزل والدي ومنزل أخي المقتول.
أما التعذيب فسأفرد لمشاهداتي مكان يلي هذا مباشرة وهي بعض من نصف الحقيقة التي عرفتها فقط في يوم هذا التاريخ 18 يناير 1986.
(12)
تعذيب
في نفس اليوم 18 يناير 1986شاهدت معتقلين يجرونهم إلى غرفة التحقيق .. عرفت بعضهم من لهجتهم ولكنتهم وسحنتهم أنهم بدو من أبين وشبوه.. ثم كنت أسمع صراخهم ألما ووجعا.. شاهدت بعض المحققين يحملون “صمول” يضربون بها بعض المعتقلين بقسوة.. كانت مشاهد صادمة لم أتوقعها.. كانت مشاهد لا تخطر على بالي يوما أنني سوف أشاهدها جهارا نهارا عيانا.. وأين وضد من؟! أنها الأسئلة الأكثر وجاهة وإيلام..
كان المحققون يبحثون عن اعترافات سريعة يحتاجونها.. كان لوقع الضرب والعنف الذي مارسه المحققين مع بعض المعتقلين يعيد ذاكرتي إلى فلم وثائقي “جرائم المخابرات المركزية الأمريكية” شاهدته في سينما “دار سعد” حالما كنت أدرس الثانوية، وهو فلم يتحدث بالصوت والصورة على انتهاكات فضيعه لحقوق الإنسان لنشطاء وسياسيين ومقاومين لأنظمة دكتاتورية في أمريكا اللاتينية والوسطى والمغرب العربي وغيرها.. كنت وأنا أشاهد الفلم أشعر أن الموت بالنسبة للمعتقل المعذب أمنية بل وربما أمنية بعيدة المنال.. ها أنا اليوم أشاهد تعذيب حي وبأم عيناي.. أسمع صراخ التعذيب دون وسيط أو تصوير..
أحدهم عرض علي أن أشارك في التحقيق بعد أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق.. يا إلهي.. أيعقل هذا !! أنا أحلم أن أكون قاضيا أو محاميا وهذا يريد أن يحولني إلى جلاد.. يجب أن أغادر هذا المكان.. ذهبت لمقابلة القيادة بمعاونة صديق.. كانت القيادة تتمركز في مبنى البريد.. كان أحدهم يافعي يعمل مديرا لمؤسسة اقتصادية والأخر قيادي عسكري.. طلبت الأذن بالمغادرة وأردت تسليم سلاحي.. كان صديقي ينتظر الموافقة ليستلم سلاحي وذخيرتي وبالفعل حدث هذا وعدت إلى بيتي دون سلاح أو ذخيرة.. لم يفعلها أحد ولم أسمع بمنتصر سلم سلاحه وعاد إلى بيته.
نعم في هذا اليوم 18 يناير 1986عندما كان يتجه المزايدون والنفعيون والانتهازيون للانضمام للفريق المنتصر كنت أنا أسلمّ سلاحي وذخيرتي وأغادر ساحته إلى البيت.
(13)
تصفية حسن عبد الله الأعور
عدت إلى البيت.. تواصل بي حسن عبد الله الأعور، وطلب مني المجيء إلى منزله.. كنّا جميعا نسكن في حي الثورة “القلوعة” وكنت أزوره إلى منزله في معظم الأحيان.. كانت تربطني به علاقات صداقة واحترام وفضلا عن ذلك نحن من منطقة واحده في الشمال.
حسن عبد الله رجل مكافح واعتمد على نفسه في بناء نفسه.. تغلّب على عاهة فقدان النظر في أحدى عينيه.. حسن عبد الله مكافح وناجح بعين واحده.. وصل إلى رتبة رائد أو نقيب وشغل وظيفة النائب السياسي للمليشيا الشعبية في عدن ـ معسكر20ـ حسن عبد الله رجل كادح ومعدم بناء نفسه من الصفر والعدم.. كان يتميز بتواضعه الجم وكان أكثر ما يميزه أنه خدوم جدا لكل الناس الذين يقصدونه، ولا يحمل حقدا أو غلا على من يختلف معه في الرأي السياسي..
كان يتعامل معي باحترام فائق وكنت أكنّ له كثيرا من الود والتقدير والاحترام.
حسن عبد الله كان لديه عدد كبير من الأبناء الصغار أكبرهم لم يتجاوز الـ15 سنة فيما زوجته مصابه بمرض في القلب وتعيش على دواء دائم.. حالتها الصحية تزداد تدهورا..
كنت أشعر أنه في وضع صعب وأن نجاته من هذه الأحداث العاصفة ضئيل جدا.. كنت أشعر أن الانتقام الأعماء سيكون سيد الموقف بعيد عن أي عدالة أو قانون أو محاكمة حتى ولو كانت صورية.. تصوروا حتى المحاكم الصورية كانت مستحيلة وبعيدة المنال..
كان الموت باذخا واسترخاص دماء وحياة الخصوم حد الصفر من البخس.. كنت أشعر أن أبناؤه الكثر وجميعهم قاصرين سيكونون أيضا ضحايا جنون هذه الحرب التي عصفت بالرفاق.. كنت أشعر أن ثمة مأساة سيعشونها في قادم الأيام.
ذهبت إلى منزله.. حلّق بي الصغار كأنني سفينة نجاة وأنا أنشج في داخلي وأغالب حزني الكثيف وغصص مكتومة تذبح حنجرتي من الداخل.. شاهدت الأم مرعوبة من قدر سيأتي وهي تبكي مصاب فادح وجلل سيصيبها وعيالها، وهي تحمل جبل من الهم والأسئلة لزمن عبوس سيأتي، وترجو من الأيام الرفق بها من قادم ثقيل وأسود سواد هذه الأحداث الأشد من قاتمة والأكثر من قاتلة.
جو من الكآبة والحزن حاولت أن أغادره وزوجته تبلغني أنه في منزل لقريب في مكان قريب.. وجعلت من احد أبناءها دليلي لأصل إليه.
ألتقيت به.. أحسست بمأساته وكم من المآسي ستترك هذه الحرب.. عرضت عليه أن يأتي إلى بيتنا فربما هو أكثر أمانا، فيما المنزل الذي هو فيه ربما إن لم يكن بحكم الأكيد سيتعرض للتفتيش وسيتم اعتقاله ولا ندري ما بعد الاعتقال..
عرضت عليه أن يختبئ عندي إلى أن نجد مخرجا وما جرى له جرى علينا.. غير أنه أخبرني أنه تواصل بعبد الحافظ قائد ـ وكان من الشخصيات التاريخية الهامة في الحركة الوطنية وفي موضع احترام وتقدير لدى القادة السياسيين في الحزب والدولة وهو من الرجال القلة الممتلئين ـ وقال أنه عرض وضعه عليه فنصحه أن يسلِّم نفسه وهو سيتابع موضوعه.. هو أيضا فضَّل هذا الخيار على خيار استضافتي له في البيت.. ولكن كان للقتلة خيارهم وكان القتل منفلت الزمام، ولم يكن القتلة يعبئون بالعقل ولا بالاتزان فخاب تقدير حسن وتقدير حافظنا الطيب.
سلم حسن عبد الله نفسه للفريق المنتصر وتم إرساله لسجن “صبر” في محافظة لحج وبعد أسابيع أو شهور تم تصفيته مع كثير من المعتقلين.. وبقت قلوب وعيون أطفاله وزوجته معلقة تنتظر عودته سنوات طوال.. ظل أفراد أسرة حسن يترقبون كل يوم أن يطرق حسن الباب، وحسن كان قد غادر قسرا إلى اللا عودة واللا اياب.. عذاب يومي ثقيل ومؤلم ظلت أسرته تعيشه طيلة الليل والنهار ولسنوات طوال.
لم تقتصر مثل هذه التصفيات على طرف دون آخر بل كلا الطرفين تسابقا وأثخنا بالقتل إلى حد الجنون.. خيرة كوادر الحزب والدولة وكثير من الأبرياء كانوا ضحايا هذه الحرب اللعينة والمملوءة بالجنون.. كانت هذه الحرب بداية لهزيمة كبيرة لاحقه للحزب والجنوب والوطن في 1994.
في أحدث 13 يناير ارتكبت مجازر ومذابح مروّعة بعضها يشبه جرائم “داعش” اليوم . إننا قوم لا ندرك ما بلغناه من جنون القتل والدمار إلا بعد فوات الأون والندم.
(14)
خاله “خدوج”
ذهبت لزيارة خاله خدوج في المعلا.. ما أطيبها وما أطيب نساء عدن.. زوجها محمد قائد هاشم أو كما هو متداول محمد الحربي.. محمد هذا قريبي وتحديدا أبن عم أبي.. أخذه المنتصرون من بيته وغيبوه في محبس مغلق ومكتوم بالجدران، ربما يشبه ذلك المحبس الذي وقفت على بابه في كريتر، وكان المعتقلين محشروين فيه ككومة لحم، عطاشا حد الموت، ومخنوقين حد الكفر.
كان محمد يعاني مرض الربو.. مات اختناقا في محبسه.. ترك أطفالا صغارا وزوجه ثكلى معذبة بالفقدان والانتظار..
خاله خدوج تحمل من الحب لزوجها ما لا تحمله حاملة الأحمال في الأرض ولا تحمله سحابة غيث في سماء.. تزوجا عن قصة حب فيه كثير من العبور والتحِّدي.. لا أروع من قلب خاله خدوج ولا أطيب منه..
خاله خدوج مسكونة بطيبة وصبر أهل عدن.. ياااااه كم أهل عدن طيبين.. كم هم متسامحين.. كم هم لبعض عند الحاجة والشدة.. علاقاتهم سوية وغامرة بالبراءة.. متصالحين مع أنفسهم.. يحملون قلوب نقية كالكريستال.. صفحاتهم أبيض من ندف الثلج..
أهل عدن الصابرين على كل الشرور التي قذفتها الرياح في وجوههم أو صبتها الأقدار على رؤوسهم.. كم جنى المتوحشون على عدن وأبناءها الطيبين من الآحزان والآلام والمآسي العراض.
ما أشد وأقصى أن يأخذونك من بين أطفالك وأحضان زوجتك ثم يغيبونك عن جميع من يحبك ويقطعون كل أخبارك عنهم وعن عالمك الصغير .. يغيبونك للأبد دون أن يقطعون رجاء عودتك إلى أطفالك وزوجتك.. كم يتعذب من ينتظر رجاء من وهم أو أمل من سراب..
كم تتعذب الزوجة عندما يقذف القدر بحبيها للمجهول لمجرد رأي أو موقف يراه صاحبه إنه صواب ثم تظل تنتظره شهور وسنوات، وربما بقية العمر مصلوبة على جدار الانتظار.. إنه عذاب جحيمي طويل..
كثيرون هم الذين دفعوا أثمان أخطاء غيرهم.. كثيرون هم الضحايا.. كثيرون هم ضحايا الحروب والأطماع والتسلط والاستبداد.
(15)
المناطقية .. خراب على خراب
كانت للتعبئة المناطقية والجهوية دورا مهما في النتائج الكارثية لأحداث13يناير.. كنت أسأل نفسي كيف لفضاء الأممية أن يصغر ويضيق إلى هذا الحد؟! لماذا تلك النخب القيادية تعدم فضاء كان يمتد إلى أمريكا اللاتينية وتستبدله بديم عصبوية أصغر من حلقة أصبع؟َ!
صعدت باصا للركاب من كريتر باتجاه خور مكسر وعلى طريق ساحل أبين صعد ثلاثة من طلبة الكلية العسكرية للباص الذي كان يقلّنا يبحثون عن بطائق الهوية، وعندما تموا التحقق من الهويات أعتذر أحدهم بالقول: “آسفين نحن نبحث عن أصحاب شبوة وأبين”..
لقد كان القتل والاعتقال يتم بحسب بطاقة الهوية.. لقد كانت الهوية وليس الجرم من يحدد حقك في الحياة من عدمه.. صار الاعتقال والموت يختاران ضحاياهم بحسب البطاقة والمحافظة.
تم تصفية كثير من رفاقي وزملائي في لواء الوحدة لمجرد انتماؤهم فقط إلى الشمال أو إلى مناطق الضالع وردفان ويافع وكان بعضها قد تم بطريقة مروعة.. وفي المقابل حدثت أفعال انتقامية من الطرف الآخر لا تقل مأساة وترويع عن ما أرتكبه الفريق الأول.
لماذا تم تصفية المساعد عبده علي والمساعد حسن ابراهيم والمساعد البرح من أبناء الشمال.. لماذا تم تصفية صديقي محمود سالم من يافع والملازم نصر من ردفان والملازم الحياني من إب والعفريت وزيد وعلوان من التربة والعشرات من أمثالهم..
لماذا قتلوا الفنان عثمان.. الفنان عثمان أرق من نسمة.. الفنان عثمان الصوت الطالع من أعماق الروح لماذا قتلوه؟! هذا الذي غنّى للشاعر أيمن أبو الشعر بلحن وصوت شجي وعميق:
علمني بوح جدار السجن أن ارادة رجل حر أقوى من قفل السجان
علمني قبر فدائي أن ركوع شهيد فوق التربة أسمى آيات الايمان
وغنى أيضا :
لمن تمشطين شعرك الجميل يا يمن
ضفيرة صنعاء ضفيرة عدن
فكي شريط الشعر كي تصحو الخصل
لمن فرقت شعرك الرطيب يا يمن ؟
ضفيرة صنعاء
ضفيرة عدن
كلا الفريقين منتصر ومهزوم دفعا ثمناً باهضاً وفادحاً، وكانت خسارة الوطن أجل وأفدح، ولازلنا نعيش آثار هذه الأحداث إلى اليوم..
كل مساحيق التجميل التي جاءت باسم التسامح لم تنجح في ردم الشروخ العميقة التي تسببت بها هذه الأحداث.. ثم جاء الخصم أو العدو وأستفاد مما بقي في الوعي وما علق في النفوس من آثار وانقسامات وتناقضات وأعاد انتاجها، وأضاف إليها انقسامات وتراكمات جديدة وأعادت النخب القديمة انتاج نفسها لتأسس من جديد صراعات جهوية ومناطقية جديدة بل وعنصرية أيضا، وتم اضافت الافدح إلى ما هو فادح، وبني خراب على خراب..
الصورتين للزميلين الحميمين لي الملازم محمود سالم من معربان يافع والملازم أول الحياني من إب تم تصفيتهم في أبين.
جانب من المعاناة والمواقف الطريفة
(16)
عندما لا تجد قيمة قبر أو كفن يكون الكفر
ظلت ترافقني في الجامعة رغبة القراءة بصوت عالي حتى بلغت حد الاستحواذ.. صارت طبعا يتملكني ولا أستطيع الفكاك منه، ولا أكتفي بهذا بل احتاج أيضا لبني آدم يستمع لحديثي عند المذاكرة، وزائد على هذا وذاك أحتاج من يناقشني ويسألني..
كان زملائي محمد قاسم أسعد من ردفان وعبيد صالح وصالح القُمّلي من الشعيب وعبدالاله مشهور من يافع وقائد حسن حزام من المعلا ومحمد ربيع عميران من القلوعة آنس لهم وأستمتع بمجيئهم إلى البيت للمذاكرة، وأحيانا يملني أحدهم أو يتمرد فاستعيض عنه بآخر وعندما يقرفني الجميع أو يتمردون ألوذ بخالتي ..
كانت خالتي تستمع لي وأنا أشرح لها دروسي وأتحدث إليها وعمّا قاله ماركس ولينين وأنجلس وهي “الأمِّية ” صبورة وطويلة البال.. كان النعاس يداهم عيون خالتي في كل حين وهي جالسة تستمع لي، ومن أجل أن اجعلها يقضه أطلب منها أن تردد ما أقول مرة ومرتين وثلاث لتشتد وتندمج معي ومع ما أقرأ.. كنت أشعر أنني أتنازعها مع النعاس والنوم وعلى نحو مرهق ومُلِح حتى صرت أجيد في فترة لاحقه إدارة الاشتباك مع النوم.. آه كم كانت خالتي هذه صبورة وطيبة وودودة..
خالتي سعيدة كانت سعادتها قليلة في واقع ثقيل لمن هو قليل الحيلة.. كانت خالتي ملاذا لي في القرية، حال ما أهرب من الضيق والجحيم.. كانت صبورة وعندما يكظمها الغيض “تتزمل” وكان الزامل تنفيسا عن المعاناة وإشغال للذات عن النكد حال ما يحاصرها فتجد في الزامل عبورا إلى عالم مختلف تحاصر هي فيه النكد بدلا من أن يحاصرها..
خالتي بعد فقدت ابنها وعائلها وضعت نفسي في خدمتها وأصطحبتها مع أولاد أخي إلى عدن وعشنا مع بعض وعندما ذهبت إلى صنعاء اصطحبتها معي.. عشنا الحالي والمر معا.. شبعنا وجوعنا معا.. أكلنا الروتي والبصل بل وأحيانا الروتي والبسباس.. جاري منصر الواحدي هو من كان يعلم فقط ببعض ظروفي الخاصة.. سماني “أحمد بصله” بسبب اعتمادي على البصل كوجبة رئيسيه تمنحنا البقاء والحياة.. أختي سامية أيضا مريضة عندي وتحتاج إلى علاج مستمر ومتابعه عند الطبيب.. كنت أعيش أنا وخالتي وبنى أخي واثنتين أو ثلاث من أخواتي وأخي وزوجتي وابني فادي وابنتي سناء.. كنت أشدد عليهم بأن لا أريد صوت حاجة يخرج من الباب وإن متنا طوى.. كنت الصمت المكابر في زمن الفاقة والجوع..
كنت لا أملك ما أسعف به ابني فادي الذي كان يعاني من الربو.. كنت أستدين من جاري منصر أو جاري الآخر علي فضل وأسابق الموت عندما أسعفه إلى المستشفى.. كنت لا أستطيع توفير قيمة الحليب.. بعت الـ “دبلة” وفيها الحرف الأول لاسمي واسم زوجتي لتوفير الحليب لأبني البكر..
مرضت خالتي حتى اصيبت بقرحة الفراش.. تكالب عليها المرض.. لا أملك ثمن العلاج، طلبت من زميلي عبد الملك العرشي يحضر لمعاينتها وكان قد عمل مساعد طبيب في المستشفى العسكري.. طلب شراء قربة لتركيبها.. تصرفت واشتريت “قربة”.. تفاجأت أن خالتي لم تحرك يدها وهو يغرز الإبرة في يدها ليركب لها “الدريب” شاهدت دمعتين تنساح من عيون خالتي.. يا إلهي .. إنها دموع الفراق الأبدي .. أخبرني صديقي أنها خالصة والأمل ضعيف.. دقائق قليلة وفاضت روحها بصمت موحش.. لم أتوقع أن تغادرنا بهذا الهدوء.. أنسلت إلى العالم الآخر بخفة وكأنها لا تريد إزعاجنا.. خرس شل لساني ودموعي تنساب بصمت يقتلني.. يا إلهي لا أملك قيمة قبر ولا كفن..
نعم .. عندما ماتت خالتي في صنعاء لم أكن أملك قيمة قبر ثلاثة آلاف ريال ولا قيمة كفن.. أذكر أن جاري منصر الواحدي ـ جنوبي ـ هو من كان يعلم بظروفي وهو من ساعدني في تكفينها وقبرها.. عندما لا تجد قبرا أو كفن يكون الكُفر ملاذ.
قبرناها في صنعاء جوار عتيقه.. لا أدري من هي عتيقه.. فقط اسمها مكتوب على قبرها.. تأملت في اسم عتيقه كثيرا لعل يوما أبحث عن قبر خالتي ولم أجده .. لعل اسم عتيقه هو من سيكون دليلي وخصوصا أن خالتي لا اسم فوق قبرها ولا علامة.. عتيقه جارة خالتي في الأرض السفلى ودليلي إليها فوق الأرض طالما لا زلت حياً لعل يوما أبحث عن قبرها لأهديها بقايا دموع لم تجف بعد..
رحلت عن قبرها وتمنيت لها طيب الاقامة والجوار في مجاهيل صنعاء وقبورها.. عدت إلى البيت وجاء بعض الجيران يريدون “مجابرتي” .. أذكر أنني ثرت في داخلي وكظمت غيضي وبديت كأنني شجرة في وجه عاصفة من الغضب.. لا أريد غير أن أعود إلى أدراجي بصمت.. لا أريد أن أتحدث لأي أحد .. أبلغت جاري منصر الواحدي ليبلغهم أنني لا أريد مجابرة.. يتصرف هو معهم.. وفي العشاء سندبر قيمة “نعنع” نوزعها عقب صلاة العشاء لروحها الطاهرة..
(17)
نظرية الدولة والقانون
الأستاذ حامد كان يدرّسنا مادة نظرية الدولة والقانون.. كانت من أهم المواد الدراسية في سنة أولى كلية الحقوق.. كان الأستاذ حامد فاهما وحازما وجادا وبخيلا جداً في منح الدرجات..
كان أول اختبار حقيقي صادماً في نتائجه للجميع.. تم إعلان النتائج بالقاعة.. أكبر نتيجة تم حيازتها كان سبعة من عشرة.. حُزناها قلة قليلة لا نتعدى الأربعة أو الخمسة طلاب.. لا أذكر إن كانت بيننا طالبة أم لا.. من حاز على السبع علامات من عشر كان يشار له بالبنان..
كنّا نسمع الصفر في القاعة كثيرا، وكانت الدهشة والاستعجاب تعلو الوجوه مع كل إعلان نتيجة طالب.. كانت درجة الصفر أكثر ما تكرر سماعها ثم الواحد والاثنين والثلاثة.. كان من يحصل على خمسة علامات من عشرة يقول اللهما لك الحمد والشكر.. كانت نتائج الطالبات في أغلبها متدنية بسبب الحفظ من الكرّاس.. أعطت هذه النتائج ملمح للمتفوقين في الدفعة..
كانت رسالة الأستاذ حامد من هذه النتيجة هو أقرأوا من خارج الكُرّاس.. الدرس في الكراس مجرد عناوين.. لم تمنح السبع علامات إلا لمن قرأ المراجع وأجاد الجواب.. شعرنا أن الجامعة شيء مختلف.. شعرنا أن هذا الاختبار كان أول وأعظم اختبار عرفناه وعرفنا فيه قيمة الجامعة وماذا يعني التعليم الجامعي.
كانت لنا مع هذا الاستاذ القدير عدد من الطرائف ففي أحد “السيمنارات” النقاش.. كان صديقي وزميلي قائد حسن حزام إذا تم سؤاله من قبل الأستاذ يستطرد زميلي قائد في الجواب ويسهب.. لا يعجبه أن يقطف الجواب مباشرة بل يبدأ من وعادها نطفة ولا يصل للجواب إلا بعد الولادة.. سأل الأستاذ زميلنا في إحدى المرات عن المرحلة الشيوعية، فبدأ زميلنا بالجواب والتسلسل من المرحلة المشاعية وهذا يعني أن جوابه سيعبر العبودية والاقطاعية والاشتراكية ولا يصل إلى الشوعية إلا بعد حين طويل وإن استعجل سيصل إلى الجواب المطلوب آخر النهار.. ففاجأنا الأستاذ حامد وأستأذن من الطلبة ليذهب إلى الشيخ عثمان، وأبلغنا أنه عندما يوصل زميلنا المرحلة الشيوعية نتصل به ليأتي يكمل السمنار ههههههههه لقد فقشنا من الضحك..
و كان عندما يسأل الأستاذ حامد زميلنا قائد سؤال نترقب الجواب ونحبس أنفاسنا حتى لا ننفجر ضحكا أو نتذكر السالفة السابقة حالما كاد الاستاذ يغادر القاعة حتى يكمل صديقنا جواب السؤال.



الصور لبعض الزملاء في الجامعة.. الصورة الثنائية مع الصديق العزيز جدا والمؤتمن قائد حسن حزام.. كان محل ثقتي كلها.. كان رجل محل ثقة في الأمانة إلى أبعد الحدود.. القاضي قائد من أنبل وأروع أصدقائي..
الصورة الرباعية من يمنيها الأول باشقير من حضرموت وأنا الثاني والثالث محمد عبده من شعب والرابع محمد صالح من يافع.
صورة الثمانية من يمنيها.. الجاثيين: الأول قائد حسن حزام من المعلا ويليه صالح القملي من الضالع وعبد الرب من يافع وسهيل من التواهي.
والقائمين من يمنها: محمد عبده من شعب ويحيى الشعيبي سبق الحديث عنه وعبده طه من المضاربة ومحمد منصور من يافع..
جميع أصدقائي كانوا رائعين..
(18)
مادة الإنجليزي كانت هي الكساح
مادة الإنجليزي كانت هي خيبتي الكبيرة التي رافقتني طوال دراستي الاعدادية والثانوية ومرحلة مقررها في سنوات دراستي الجامعية.. كانت هي المادة الوحيدة التي أشعر بالقلق ينتابني في مواجهتها منذ الصباح الباكر، ويستغرقني الإحراج وأنا أحضر درسها.. المادة الوحيدة التي ليس لدي فيها ما أقوله.. كنت أشعر بالعك والاكتئاب لمجرد أن أتذكرها.. طيلة سنوات دراستها كنت عاثرا وكسيحاً فيها، وفي الجامعة شاركني هذا الكساح زميلي وصديقي عبيد صالح..
كنت أشتاق لكل المساقات الدراسية وأحرص أن أكون في الصف الأول دوما، ولكن إذا ما أتت مادة الإنجليزي كنت أنتقل إلى الصف الأخير في الفصل.. كنّا نلتقي دوما أنا وزميلي عبيد آخر الصف في مادة الإنجليزي.. كنا نحاول الاختباء من نظرة الأستاذ أو الأستاذة خلف رؤوس زملائنا الذين يجلسون قبلنا في الصفوف..
في إحدى المرات كان زميلي عبيد يحاول مثلي يخبئ رأسه خلف الرؤوس، فأدرك الأستاذ ما يفعله صديقي.. كان اذا مال رأس عبيد يسارا مال معه رأس الأستاذ ويقول له “نعم أنت” ويوجه له السؤال.. ولكنه بدلا من أن يجيب على سؤال الأستاذ يميل عبيد رأسه إلى اليمين فيميل الأستاذ إلى اليمين ويجعله تحت ناظريه، ويقول له مرة ثانية “نعم أنت.. أنت”، فلم يبقِ لزميلي عبيد إلا أن يحاول يطأطئ رأسه في الوسط والانحناء برأسه إلى الأسفل، فيقف الأستاذ على أطراف أصابعه ويحدده بيديه فيفقد زميلي كل حيلته ثم يقول للأستاذ: مش أنا يا أستاذ هذا صاحبي الذي بجانبي ويشير إليّ فقرح الطلاب بالقهقهة..
كان يلتبس على زميلي عبيد حروف “السي” و “الإس” فيسألني لأنجده عندما يسأله الاستاذ، ولكن بدلا من أن أساعده في التمييز بينهما أشيره بأنه “آر” فينفجر بالضحك منهم في الجوار من الزملاء..
كان بعض الطلاب في كل حصة إنجليزي ينتظرون ما يأتي منّا ليضحكوا.. كان كل منّا أحيانا أشبه بالممثل الإنجليزي “مستر بن” في أدواره الصامتة وما ننطقه كان كوميديا كاملة تضحك الجميع..
طلبت مني مدرِّسة الانجليزي أن أدخل كلمة سؤال على مفردة أختارها.. طارت الكلمات من رأسي تحت هلع مباغتتها لي بالسؤال.. وفجأة تذكرت كلمة “سليب” وحاولت أركّب سؤال ليصير: أين تنامين؟! فضحك الجميع وأولهم المعلِّمة.. أما زميلي عبيد فلم يريد أن يفجر مفاجأة أكبر فألتمس منها طلب عندما سألته وهو يحاول يطل من نافذة جانبه تطل على الميدان في الجوار وقال: يا أستاذة في الحصة حقك مستعد أن أحمل كيس ملح وأظل احمله وأجري حول الميدان حتى تكملي ساعة حصتك ولا تسأليني، فقرح الجميع بالضحك.. كنا في كل حصة ينتظرنا بعض الزملاء ماذا سنقول إن تم سؤالنا ليقهقهوا فيما كنا نحن طيلة الحصة نسأل الله السلامة.. السلامة فقط طول وقت الدرس ولا نسأل غيرها..
كنّا أوفيا أنا وزميلي عبيد لبعض حتى يوم امتحان هذه المادة.. كان جلوسنا يوم الامتحان مع بعض جنبا إلى جنب يثير فضول زملاءنا.. كان الأمر محل غرابة.. كنت أستخدم في الإجابة على أسئلة قطعة القراءة البحث على الكلمات في السؤال ثم أبحث عن الكلمات المشابهة لها في القطعة وأعرف أنه الجواب.. ثم أكتب الاجابة من النقطة إلى النقطة..
كنت اعتمد على المقارنة والحدس عند الإجابة.. وأحيانا أشعر وأنا أبحث عن إجابة أنني أشبه بالأعمى الذي يعتمد على عصاه في البحث عن الطريق.. وأحيانا كنت اعتمد على شجاعة صديقي عبيد فأنا لطالما خانتني شجاعتي وخجلي.. وعندما يمر الوقت المخصص للامتحان ويمنح المدرس أو المدرِّسة خمس دقائق اضافية أكتب أي شيء ولا أترك سؤال إلا وكتبت إجابه لا يفهمها لا عربي ولا إنجليزي .. كان خطي في الإنجليزي جميلا وكنت اكتب حروف انجليزي وأرابط الحروف ولا يستطع أحد فهم معناها ولا أعرف معاناها حتى أنا، وأدرك مليّا أن الأستاذ أيضا لن يفهم معناها، ولكن كنت أعتقد أنه سيحدِّث نفسه أن هذا الطالب له شرف محاولة الإجابة.. المهم بالنسبة لي أن أحاول أن لا أرد سؤال دون أن أكتب له جواب أو أكتب أي شيء.. وفي المحصلة لا نسعى أنا وصديقي إلا أن نحصد نصف الدرجة وهي النجاح بالكاد.. أذكر أحد المرات كانت درجاتي في الإنجليزي 26 من 50 قلت في نفسي أن الدرجة الزائدة للإجابة التي اكتبها ولا أحد يفهم معناها ولا تعدو غير شرف المحاولة إن لم تكن طلاسم تجلب مقبول النجاح.

أنا وزميلي عبيد يسار الصورة
“19”
البحث المغامر مجد يخذله المجتمع
كانت مادة مناهج البحث العلمي من أهم المواد التي كنت شغوف بها.. كنت أشعر أنها تضيف لي معارف محل احتياج واستخدام.. كنت أذهب إلى مكتبة الكلية ولا تقتصر قراءتي على المقرر والمراجع الذي يوصي بقراءتها أستاذ المادة، بل كنت أقرأ أيضا في مناهج البحث ما هو خارج عن هذا وذاك..
كنت أشعر أن مناهج البحث هي المقدمة الضرورية من أجل أن تكون باحثا محترما ومقتدرا ومفيدا للعلم والمجتمع ..
كانت درجاتي في هذا المساق نهاية العام لم تتعد أربعه من خمسة، ومع ذلك ليس من السهل أن تحصد أو بالأحرى تنتزع مثل هذه النتيجة عند أستاذ هذه المادة د. أحمد زين عيدروس.
ليس الأستاذ حامد وحده البخيل في اعطاء الدرجات بل أن جل الاساتذة حريصون على منح الدرجات لطلابهم بما يوازي ما يبذل من جد واجتهاد يبلغ أحيانا حد المشقة.. لا يمنحوا الدرجات إلا لمن يستحق وبعد جهد جهيد.
الدكتور أحمد زين عيدروس كان لديه فلسفة أن المؤلف هو من يتم منحه خمسة على خمسة أما الدكتور الذي يدرِّسها لطلابه فيستحق أربعة من خمسة، أمّا الطالب فلا يجب أن يمنح أكثر من ثلاثة، ولكن مع ذلك كان أستاذنا إذا ما وجد أن طالبه ملمَّا ومجتهدا وقارئا باستفاضة يعطيه أربع درجات أي جيد جدا وهي درجة نعتبرها وكذا الأستاذ أنها درجة بعيدة المنال ولا يبلغها الطالب إلا بطلوع الروح.
لا زلت أذكر كلام أستاذ مناهج البحث وهو يحثنا على أنه إذا ما أراد أحدنا البحث فيلزم الحياد والموضوعية والتجرد ووجوب رمي كل القناعات والتصورات المسبقة إلى الخلف ولا يستدير.
وإجمالا أفادني إلى حد بعيد ما قرأته في مناهج البحث في الجامعة لاحقا في بحثي في معهد القضاء العالي والذي كان عنوانه “اشتراط النسب القرشي في الولاية العامة” ثم طورته ليصير بعنوان “الصراع السياسي في صدر الإسلام واشتراط النسب القرشي في الولاية العامة”
في هذا البحث بذلت جهدا جهيدا وضافيا وأنجزته بمثابرة واجتهاد متواصل أستمر أكثر من عام، ورغم ذلك أراد أحد المناقشين المشبعين بثقافة الإخوان المسلمين أن يفشلني في هذا البحث وثارت ثائرته يوم مناقشته وكأن مسه شيء من جنون، ولكنني عبرت هذا المانع بوجود الدكتور صادق شائف والدكتور أحمد شرف الدين.
عرضت البحث في وقت لاحق على الدكتور أبو بكر السقاف وكان معجبا به وألمح إليه ثلاث مرات في كتاباته وحثني أكثر من مرة على نشره وقد أحجمت على نشره في واقع مجتمعي متخلف ونظام قانوني سائد أكثر تخلفاً.. ومع ذلك لا زال في الوقت بقية وربما أنشره في مدى منظور على نفس طريقة “من أرشيف الذاكرة” على صفحة الفيسبوك..
تفوق وكلفة حب تساوي نزيف الروح وأكثر
(20)
سنة أولى .. الأول في الدفعة .. امتياز
بقدر ما تعطي تحصد .. بقدر الجهد المبذول تكون الثمار .. بقدر اجتهادك ومثابرتك تكون النتيجة..
في السنة الدراسية الأولى بذلت جهد بحجم التحدّي أو هكذا أظن، وجاءت النتيجة إحرازي للمركز الأول في الدفعة بامتياز، كما أعطى البخل والتشدد في منح الدرجات ما جعل هذا التفوق ألذ وأمتع. فضلا أنه كان غير مسبوق في الدفع السابقة من عمر الكلية.
عندما تجد مجهودك يثمر ما يساويه من النجاح، من حقك أن تفرح، ومن حق الفرح أن يغمرك بنشوته، ولاسيما عندما تعبر محطات الفشل والإخفاق والمُحبطات وتتجاوز الصعاب والعقبات التي تعترض سير نجاحك أو تحول دون أن تحقيق مزيد من النجاح والتفوق.
و مع ذلك أستطيع أن اقول لست ذكيا بما يجعلني مفاخرا بهذه النتيجة إلى ذلك الحد، ولكن استطيع الزعم أنني كنت مجتهدا ومثابرا ومواظبا وعنيدا لتحقيق مثل هذه النتيجة..
و أظن أن من جملة أسباب تحقيق مثل تلك النتيجة هي أنني كنت أحاول اطلّع في جزئية أكثر مما كان الاستاذ مطّلع فيها، أو حتى يكون قد أطلع عليها ولكن كانت في زاوية من ذاكرته ثم يسمعها مني دون الآخرين .. وبهذا أجد نفسي لا أتميز عن أقراني ولكن أستطيع أن أضيف شيئا يجعل الدكتور مبهورا أو يشعر ببعض الإعجاب المعلن أو الكتوم بسبب ما أحاول أن أميز نفسي عن زملائي أو هكذا اعتقد.
و خلاصة ما تعلمته من هذا التفوق والنجاح أنه بإمكان الفاشل في محطات عديدة أن يعوض هذا الفشل في محطات أخرى تجلب له كثير من النجاح بل والتفوق أيضا..
تعلمت أن الظروف العابسة أو البائسة يمكنها أن تكون أيضا دافعا أو ملهما لكثير من النجاح..
تعلمت أن كل شخص فينا يمكنه أن يجد ما يميزه إن بحث عن هذا التميز أو اجتهد في الحصول عليه..
كل شخص فينا لديه ما لا يجده عند غيره، ومن يفشل في أمر فهذا الفشل ليس آخر العالم بل لدى هذا الفاشل القدرة على التفوق في أمر آخر أن سعى إليه واجتهد .. المهم أن نكتشف أنفسنا ونعمل ونجتهد من أجل التفوق في هذا الأمر أو ذاك ولا نيأس ولا نستسلم للإخفاق أو الفشل .. والأهم من المهم هو النجاح والتفوق أن يقترن بشرف الوسيلة ونبل الهدف.
(21)
بنت الوزير
“أ”
“هيفاء” نسمة بحر.. “هيفاء” روح الله.. “هيفاء” أسرار جمال الأرض، “هيفاء” تسبيحات صوفي مسكون بالواحد، وشلال غفران لا ينضب..
“هيفاء” ملكوت الله وتسبيحات الكون باسمه، وصلاة عوالمه لجلالته.. وأنا قليل الحيلة في قاع بير جفت أندب حظي البائس.. كيف أقارن والفارق كالفرق بين مخلوق وخالقه.. الفارق أكبر كالفرق بين ذرّة رمل ومجرَّة.. هي بنت وزير عالٍ وأنا إنسان بسيط جدا ومسحوق حد العدم.. أنا إنسان لا زلت أعيش خواي، وبؤس أسمع صريره في صلب عظامي، وأعيش فراغا في عاطفتي بحجم الكون وأكبر.
قبل سنوات وأنا دون الـ16عام سكنت على سطوح “مصباغة” في المعلا.. كل يوم تضحي الشمس على ظهري وتشويني في الرابعة، ويلهطني شد الحر، من يرحمني من غضب الشمس؟! وحبيبات الحر تسلخ جلدي، وتشوِّه جسدي المنهك، ولا تترك مكانا فيه إلا وأصاب فيه الحر مكمن أو مقتل..
كنت أذرع الشارع وأجوس، أتمنى أن أجد من يتبناني عام أو شهر.. فراغ عاطفي يهرس عظمي.. أبحث عن بيت تأويني وأسرة حانية تهتم لأمري.. كنت أرى من يملك في عدن بيتا من طوب أو بردين أو كوخا من قش أشبه بمن أكمل دينه ودنياه وظفر بفردوس الجنة على الأرض.. أما أنا يا الله لا مأوى لي ولا فرش.. وعندما ظفرت وكأن الدنيا غفرت، وجدت بيتا آوي إليها لم تكتمل بعد، كانت تشبه بيت الفئران، فيما بيت من أحببت في منزلة الله وجواره أو تحت ظلاله وإن دنا من وصفي الفحش أنزل درجة .. جوار سدرة المنتهى أو أرفع .. هكذا بدا لي الفرق بين الاثنين..
يا لفارق يقسم ظهري ويا لطلب يجعل فمي مكتظ بلساني المعقود بخرس الصخر والأحجار لمجرد تفكير غامر ومغامر في أن أطلب يدها ولو حتى في الحلم المشفوع بالنوم الغارق في العمق..
يا إلهي.. أنا ابن الدباغ، كيف يمكن أن أجمع شجاعتي وأفكر بطلب اليد ويدي مقطوعة بالحاجة.. أنني أشبه بمن يفكر بالثورة على مقدَس متجذر في عمق الوعي، ومتأصل في عمق الوجدان في وسط جامع غارق بالتهويم والتحريم الأشد غلاظة..
أي جنون هذا يمكنه أن يحمل فقيرا مهروس بالفقر ليتجرأ بطلب يد فتاة تعلوه الدرجة ضوء بألف سنة مما نعُد..
ماذا سأقول لها ولأهل العد إن سألوني هل لديك فلة أو بيت؟! سؤال يصعق جبلا ويقذف في وجهي خيبات الأرض جحيم جهنم..
هل أنا باغ يارب لمجرد تفكير في طلب لا أملكه وبحب أبعد من عين الشمس.. عالق بالفرقد.. يبدو أن الله قد كتب لي في لوحه المحفوظ حظّي العاثر بالفقدان والمصلوب بشقاء البؤس وغياب يصل حد المعدوم.
“ب”
الحب من طرف واحد
كم كنت كتوماً يا “هيفاء”، وسرِّي في الحب أخبي لاعجه من الريح في قاع البير.. مهما كان الحيل جبلاً أو صخراً صلداً، فالحب المكتوم يا “هيفاء” يهد الحيل.. لا يعلم سري مخلوقا، وكتماناً يتلظّى في أعماقي كالبركان..
سنتين يا “هيفاء” بالصمت أمضغ خيباتي بالطول وبالعرض.. أداري عواصف أشواقي عن الأعين.. والشوق المجنون يشعل حرائقه في شراييني، وصقر يتحفز محبوسا في قفصي الصدري بين ضلوع تأكلها النيران.
تيَّمنا الحب الناقص غصبا عنّا، فكتمناه بالسر وبالتقية، واحطناه بأسوار العزلة.. البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عزّ من ذلٍ ومهانة.. ما أقسى هذا الحب يا “هيفاء” وما أشده على من حب.
في جحيم الحب الناقص صليت منفردا دون جماعة، ومن أبحث عنها لا تسأل عني، ولا تدري أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها.. الحب يا لله بدون تكافؤ فُرصه، عدالة تشبه أسنان التمساح.
“جازم” أستاذي ورفيقي ومسؤولي الحزبي طرق يوماً باب القلب المثقل بالحب وبالأعياء.. سبر أغواري كخبير وطبيب مختص، وأشار بلمح سؤال: لماذا لا تفكر بواحدة منهن؟! فشعرت بأن مجس طبيب أصاب وجعي والداء.. كيف نفذت إلى أعماقي يا رفيق المبدأ والنقد الذاتي؟! كيف سمعت صوت نبضاتي وخفقات القلب؟!!
لم أعترف لرفيقي بالأمر، وحاولت أكابر على جرحي الغائر في أعماق الروح، وأنكر دوائي والداء، فيما النار كانت تشب في كل كياني، وأنا أحاول أن أخمدها في لحظة ارباك، فيما كان الخجل يطويني كقرطاس..
كيف أطلب يدها ويدي مخلوعة من الكتف!! كيف أطلب يدها وحالي أضيق من خرم الإبرة!!
كيف يمكنها أن ترضى بي للعمر وللمستقبل، وأنا أذوي مكسوراً مهزوما أمام الشمس كشمعه.. محسوراً منحسراً لا جاه لا مال لا بيت يليق بملكة.. كيف يمكنني أن أنسي هذا الحب اللاعج وهي تطل بوجهي كل صباح وتزورني في الحلم كنسمة بحر.
“ج”
عندما تكتب للريح..
“هيفاء” كانت عينيها جميلة وناعسة وعميقة.. في عينيها أسرار الخالق وسحر الله في أرضه وجمال حورياته في دار الآخرة كما هو في مخيال “الدواعش”.. جمال مفخخ بالموت..
وإن كنتُ ضحية لتجربة عاشها طرف دون آخر في حب أسموه بالحب الناقص فربما ليس ذنبنا، وربما بعضها أو جلها كانت من صنع مقادير أقدارنا.. ولكل مقادير ضحايا وخيبات..
كما خلق الله “هيفاء” بإيقاعات ومقادير وكيمياء خاص بها، خلق أيضاً إنسان مثلي خجول وتعيس وخائب.. يبحر وهو لا يجيد إبحارا ولا عوم.. حظه عاثر وعسير في معظم الأحيان.. يبحر في رحلة التيه دون ماء ولا زاد، ولا يملك في البحر العاصف إلا لوحا من خشب دون شراع، ومجدفاً واحداً ويتيم، وذراعا وحداة عسرا، وفي الحب له من الخيبات ما ليس له عدا ولا حصرا..
كتبت عن عينيها في نشرة حائطية في الكلية.. كتبت عن عيناها بدم قلبي النازف والمثقل بالحب والتعب والأرق.. قرنت ما كتبت برسم عين في داخلها بحر عميق عمق حبي الضارب في الخيبة، وبحَّار مضطرب أكثر من اضطراب البحر الذي أحاول عبوره، ولا يملك لعبوره إلا لوح ومجداف ويد واحدة، ولا زاد معه ولا ماء..
شاهدتها واقفه تقرأ ما كتبت.. يا إلهي!! الآن أريد أن تقرع أجراس الكنائس في كل الدنيا.. الآن أريد أن أعلو كل المآذن وأصلي للرب ألف ركعة.. “هيفاء” تقرأ ما كتبتُ.. أردت أن أجعل من ذلك اليوم عيد للحب ويوما لقيامته.. ولكن بحجم ما ظننت كانت خيبتي قاتلة..
كتبت لعيونها بدم القلب والروح، فيما وهي تغادر مشهد الحائط شعرت كأنني كتبت ما كتبت للريح العابرة دون صفير.. بدت لي بليدة الفهم ومتبلدة المشاعر، حيث لا تسمع ولا ترى ولا تحس ولا تجس، أو متغابية لا تريد أن تحس أو تفهم أو تكترث بضحية، وربما كنت أنا البليد والغبي مجتمعين حال كونني لا أفهم كيف أوصل إليها رسائلي، وما يعتلج من حب كثيف وعاصف في أغواري وأعماقي المشتعلة بالحب..
كنت أظنها ستقرأ ما كتبت وتعيد قراءته عشر مرات مكررة.. ولكن لا أدري إن كانت مرت على كل ما كتبته مرة واحدة على نحو عابر ومستعجل أم أنها توقفت دون أن تقرأ أو تكترث، وكان وقوفها مجرد استطلاع عابر سبيل وغير معني بالبحث عن الضحية..
يومها غادرت الكلية ولم أكمل دوام اليوم، وشتمتها في نفسي وشتمت نفسي وأنا لا أجيد الشتم.. لعنتها ولعنت حظي ولعنت الغباء ولعنت أكثر خجلي العاصف والمتلاطم بالخيبة.
“د”
تردد وخوف من الانكسار والهزيمة
كنت أعيش مشاعر متناقضة كطقس مضطرب ومتقلب بين حين وآخر، كنت أشعر أن تلك المشاعر تتقاذفني وحدي كأسير في زنزانة أضيق مساحة من أن أجد فسحة في الهواء للتفكير.. تقاذفني الإقدام، والتردد.. الحزن والانفراج.. الاكتئاب والتفاؤل.. الاحباط والأمل.. وتضيق أحيانا المسافات مع بعضها حتى أبدو كمجذوب أو مجنون أو مصاب بالصرع.
كنت عندما أشاهدها أشعر بقلبي يقفز من بين أضلعي كعصفور يحتفي بقدومها ويرقص على إيقاع خطواتها، غير أن ذلك الشعور كان يصطحب معه أيضا لحظات ارتباك واضطراب أحاول أداريها بقمع دكتاتور مستبد.. وعندما تتجاهلني أشعر بالتشظي والانكسار بالغ العمق، وأرى قلبي قد ذُبح كعصفور أو أنكسر كإبريق من زجاج، وقع من ارتفاع ألف متر وأرتطم بصخر من صوان..
كنت أريد أصارحها بحبي ورغبتي بالزواج منها، ولكن كنت أتأنِّي لاستدل على مؤشر مشجع يساعدني على جمع شجاعتي لأصارحها بحقيقة مشاعري حيالها، وعندما لم أجد مثل هذا المؤشر أتردد خجلاً وخوفا من أن ترفضني، وهذا الرفض كنت أراه سيكون صادما لي ويمكن أن يؤثر ليس على دراستي فحسب، ولكن على مسار حياتي كله.. فآثرت المراوحة بانتظار أن أجد لمحة من إشارة توحي بمشاعر إيجابية نحوي..
في إحدى المرات كانت تؤشر لزميلتها فيما كنت أظن أن تلك الإشارة هي لي.. كانت إشارة صارخة.. كاد قلبي يقع من المفاجأة.. يا إلهي هل يمكن أن يكون العبور إلى الضفة الأخرى بهذه السهولة وبهذه الإشارة التي بدت لي صارخة الاستدعاء!! حبيت التأكد إن كنت المقصود بإشارتها، فتبين إن الإشارة كانت لزميلاتها التي تقف على مستوى النظر خلفي.. في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبتلعني.. تمنيت أن يخسف الله بي وبالأرض التي تحت أقدامي إلى الأرض السابعة.
راوحت في منطقة الحيرة والتردد كثيرا .. كنت أظن أنها سترفضني ليس فقط لأنها لم تحمل مشاعر ود مشجعة حيالي، ولكن كنت أشعر أنها من أسرة أرستقراطية في ظروف حساسية ربما بدت لي طبقية، وهو ما كنت أعتقد أنه أحد الموانع الذي يعترض اكتمال الحب، فضلا عن مانع آخر هو أنني أكبرها في العمر خمس سنين.. وضف إلى هذا وذاك أنني لم أكن أستطيع أن أخرج من وقاري بتصرف لا أحبذه لإيصال مشاعري لها، فربما شيء من هذا القبيل يجعلني أبدو أمام نفسي وأمامها طائشا وصبيانيا وقليل الحيلة والكبرياء، ولا يليق بي ولا باحترامها لي فضلا أنه يهين تقدير واحترام أسرتها لي. وليس هذا فقط، ولكن أيضاً يكون هذا التصرف بالنتيجة والمحصلة هو رفضها المعلن لي ولرغبتي، وبالتالي شعوري بانكسار لا يجبر ضرره، والإحساس بالهزيمة المريرة والتي كنت أعتقد أن انعكاسها على نفسيتي وحياتي ومستقبلي سيكون بمقاس كارثي..
“هـ”
أنا وصديقي محمد قاسم
الحب الصامت والخجول والمقموع في ذواتنا يا صديقي محمد هو حب عفيف ونزيه ونقي وصادق، وفيه تضحية بالغة من طرف واحد.. إنه حب ناقص في غياب أحد أطرافه، ولكنه عظيما في جلالته وقدرة من جانب المحب وجسيما في التضحية حتى بلغنا فيه من العذاب حد الجحيم..
هذا الحب يا صديقي هو ما عشناه وعانينا منه وغرقنا فيه حتى العمق وحد التيه.. هذا الحب يا صديقي وإن كان معاقاً ومصلوباً ومعذّباً إلا أنه تجذَر فينا إلى حد العمق العميق في الوعي والوجدان والذاكرة..
هذا الحب الذي كابدناه يا صديقي في أعماقنا وخمدناه تحت الضلوع ناراً تصطلينا من الداخل كبراكين جهنم، عوَّضنا إرادة وإصرار على النجاح في ميادين أخرى، ولم نهدر العمر سُدا.. كتمنا آهات ووجع العذاب، ولم نبح بسرنا وسر من نحب إلا لحظات تمرده أو انفلات عقاله في الحلم عند نومنا العميق.
كانت لصديقي محمد قصة حب مشابهة لقصتي.. كنت أشعر أن ما يملكه صديقي محمد من الحب يكفي أن يوزع على كل نساء الأرض ويزيد.. يا بخت من أحببت يا صديقي!! إنه حب عظيم، وبقدر عظمته يكون العذاب شديد..
كنت يا صديقي أسمع أصدقاءنا المقربون يتندرون عن قصتك، فقررت أن أكتم قصتي عن الجميع بما فيهم من احببت بعد أن تعذر افهامها بحبي وادركني اليأس والاحباط.. ظللت أعيش قصتي والنزيف بكتمان شديد وربما كان يعني افتضاحي كمن يستدعي الحكم بإعدامي على أحد أنماط الطريقة “الداعشية” اليوم.
نعم يا صديقي محمد، الحب الصامت أجل وأعف وأقدس.. يعيش داخلنا مشتعلا ومتأججا ونحن نداريه عن الأعين ونحاصره في الوعي واللاوعي والوجدان وتحت الضلوع.. إن حُبَّنا يا صديقي يشبه البركان المتأجج والمضطرم تحت قشرة الأرض لا يُخمد وإن تراكمت على سطحه طبقات الثلج وجبال الجليد..
هذا الحب بقدر ما سبب لنا يا صديقي كثير من العذاب إلا إنه ألهمنا إلى مغالبة التحدِّي وإيجاد ذواتنا واقتحام دروب نجاحات أخرى.. لقد أصبحت أنت دكتورا وأستاذا في أكاديمية، فيما أنا شقِّيت طريق آخر، ولم نستسلم للموت والموت البطيء، ولم نقضِ بقية العمر نبكي اللبن المسكوب، بل استطعنا بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل والعبور إلى المستقبل رغم المعوقات والكوابح والظلام الكثيف.. إننا يا صديقي نشبه ذلك المعوق الذي غلب إعاقته وحقق من النجاح ما لم يحققه كثير ممن هم سليمين العقل والبدن.
صديقي محمد قاسم اليسار في الصورة وأنا في يمينها بالصف الأول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق