قراءة في شعر الفضول
جوانب من خصائص شعر الفضول
شعر الفضول الغنائي (قصائده المغناة)
قليلون هم الشعراء الذين تصدح بأشعارهم العاطفية والحماسية كثير من الحناجر بلحن أو بدون تلحين، ومن هؤلاء شاعرنا الفضول، فمن ذا الذي لم يتغن بأشعار الفضول ويشدو بكلماته العذبة؟!! من ذا الذي لم يطرب لقصائده التي شدت بها أفضل الحناجر الفنية لعدد من رموز الغناء اليمني؟!!
لا اعتقد أن أحداً من جيلنا لم يجد ذلك، فمن لم تحرك مواجده وتثير أشجانه قصائد الفضول ولم يجد فيها متعة – خصوصا من أبناء اليمن – فلا أظنه إلا خارج الحياة.
فماذا نقصد بالشعر الغنائي؟
الشعر الغنائي (الذاتي - الوجداني) هو الشعر الذي يعبر فيه الشاعر عن عواطفه الخالصة ومشاعره بما يعتريه من فرح وحزن وحب وبغض وما إلى ذلك من المشاعر الإنسانية التي يصور بها ذاته وتقلباته وخلجات نفسه فيمزجها بالطبيعة ورؤيته للحياة، ويكون استجابة لظروفه البيئية وتبعا لعادات وتقاليد وأعراف مجتمعه. وسمي بالشعر الغنائي لارتباطه بالموسيقى.
وهكذا كلما تواجد الإنسان وجد من نفسه وفي نفسه فناناً ينشد أعذب الألحان ويشدو بأحسن بيان ويرسم بأزهى الألوان فيحيل حنينه حناناً وخوفه أماناً وجدبه أفناناً.
فالشعر نبع لا ينضب وضياء لا يحجب، تعلمت منه الإنسانية أسمى معاني الحب وعرفت فيه كيف تصيغ مشاعرها وتكتب، فلولاه لكان الإنسان ميت الجنان عديم الحس فاقد الوجدان. فهو الذي أصل في روحه صفات الجمال ومنحه من مساحة وده مجال وحباه بحب لا يصوره خيال ولا يجسده مثال ولا يحيط به مقال.
لا شك أن النضال الذي بدأه الفضول من بواكير عمره، واشتغاله بالسياسة وممارسته للتعليم وعمله في الصحافة كل هذه العوامل وغيرها انضجت فكره ووسعت أبعاد رؤيته وعمقت نظرته واكسبته مراساً ودربة وأنمت موهبته وصقلتها وأضافت إلى ملكته إمكانات مهدت له سبل الابتكار وسهلت له الوصول إلى تحقيق الإبداع، فراح يهندس الكلمة ويفلسف العبارة ويبتكر الصورة ويمزجها بالدلالات الصوتية والانفعالات المتراسلة معها وما يتصل بها من تناسب في الإيقاع وتنويع في النغم، كل ذلك تجلت روعته في لوحاته الفنية المعبرة عن قضايا الأمة وهموم الوطن وصخب الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها وايقاعاتها، فكانت قصائده – لاسيما المغناة – تضفي على الروح أريحية وعلى النفس بهجة لما لها من وقع في الأذهان وقبول في الأفهام.
شكل الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان مع الفنان أيوب طارش ثنائياً إبداعياً استثنائياً، وإن تعامل كل واحد منهما مع آخرين (شعراء وفنانين) وأثبت قدرة وأجاد، إلا أنهما بتعاونهما الفني قدما باقات غنائية متنوعة غاية في الجمال والروعة، وتعد قصائد الفضول التي لحنها وغناها أيوب طارش أجمل ما شدت به حنجرته الذهبية من أغان طرب لها أكثر أبناء اليمن والجزيرة العربية، فأثار مشاعر الجماهير بأعذب وأرق الأغاني العاطفية وألهب حماسهم بأقوى وأروع الأناشيد الوطنية التي أبدعها الفضول. وكان بداية تعاونهما الفني عام 1968م بمدينة تعز.
أما أول أغنية غناها أيوب من كلمات الفضول فكانت (رح لك بعيد)، غناها مع الفنانة منى علي، وكانت أول تجربة ثنائية له، وعن طريق الصدفة؛ إذ كان لا يعرف الفنانة منى علي، واصطحبه أحد أصدقائه لجلسة غنائية لدى صديق له مولع بالفن، وهناك التقى لأول مرة بمنى علي وأثناء الحديث قالت إن لديها كلمات أغنية للشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان فقاما بقراءتها وأدائها معاً، وسجلت على اسطوانة ووصلت إلى الفضول، فلما سمعها أعجب بصوت أيوب، وقال هذا هو الفنان الذي أبحث عنه، فما أن عاد أيوب إلى تعز حتى جمعت الصدفة بينهما، ومن هنا بدأت علاقتهما الفنية التي تركت تراثاً غنائياً كبيراً ورائعاً.
وسوف نستعرض بعض ما قيل عن قصائد الشاعر الفضول التي غناها الفنان أيوب طارش الذي شكل مع الفضول ثنائياً إبداعياً في باقة من القصائد المغناة.
وعن لقاء عملاقي الشعر والفن الفضول وأيوب وعلاقتهما الإبداعية يقول الفنان الأستاذ جابر علي أحمد: " نعود إلى حدث التقاء الفنان أيوب بالشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، حيث تجدر الإشارة بداية إلى التناغم الإبداعي بين الاثنين شق طريقه بنجاح رغم ما أثير حول ذلك من حكايات ألقت ظلالاً سالبة على نوع هذا اللقاء الروحي. ويبدو أن العلاقات الإبداعية بين الشاعر والمغني لا تخلو – كما تؤكد التجارب – من تعارضات في المعالجات وأحياناً الرؤى. وغالباً ما تقود هذه التعارضات إلى إثراء المادة الفنية. بيد أن ضعف تجليات البنية الفكرية الفنية عند بعض الكتاب يؤدي إلى تأويلات بعيدة عن مجريات العملية الإبداعية. ففي سياق هذه العملية يحدث أحياناً أن يتشبث أحد الطرفين برأيه بدعوى قوة حجته المستمدة من تفوقه المعرفي، مثلاً. وهنا لا يمكن أن يحل الإشكال بإذعان طرف للثاني – إلا في حالة التعسف – وإنما يحل عبر إتاحة المجال لصيرورة العملية الإبداعية ذاتها في علاقتها بالناس والحركة النقدية. وهنا تحديداً تتأكد حقيقة أن علاقة الفضول بأيوب لم تكن علاقة أستاذ بتلميذ، بل علاقة مبدع بمبدع تلاقحت رؤاهما ونمت على قاعدة الخلق الفني، وليس على قاعدة الجدل العقيم، أو البابوية المستبدة. وإن كان هناك ثمة من يخامره الشك في أن العلاقة بين أيوب والفضول إنما اتسمت بتبعية الأول للثاني فما ذلك إلا نتيجة خضوع البعض للفكرة السائدة المنحدرة إلينا من السلف والقاضية بأن علاقة الشاعر بالفنان غالباً ما تكون الأولوية فيها للشاعر "( ).
" ولعل من أطرف ما قيل في شأن الفضول – أيوب، أن الأول كان لا يكتب الشعر فقط، بل وكان أيضاً يساعد الثاني في صياغة الألحان. على أن هذا القول يصطدم بحقيقة أن أيوباً تعاون فنياً مع شعراء آخرين كعلي جحاف وعباس المطاع وأحمد الجابري وعثمان أبو ماهر. وليس هذا فحسب، بل إن لحن أول أغنية للفنان أيوب (بالله عليك وامسافر) – التي سبق ذكرها – يؤشر إلى النَّفَس الفني الخاص بأيوب، وهو النفس الذي ظل يسم كل أغاني فناننا بميسمه. ولعل هذه السمة الخاصة هي التي دفعت الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان للالتقاء بأيوب لتنمية تجربة إبداعية تشكلت مفرداتها المرجعية والنظرية من طبيعة الحياة الغنائية اليمنية. وكانت تباشير هذا اللقاء باقة من الأغاني التي شقت طريقها في والجدان الجمعي بسرعة مذهلة "( ).
" وهنا يبدو أن شاعرية عبد الله عبد الوهاب نعمان المستوعبة لموازين الشعر الشعبي من منطقة الحجرية وغنائية أيوب وابتكاراته اللحنية المستلهمة من الأغاني الشعبية في ذات المنطقة والحماس المزدوج في تنضيج مشروع إبداعي متخذ من المادة الشعبية أساساً له، ويبدو أن كل تلك أسباب لعبت دورها في رفد الحس الفني اليمني بمصدر جديد للمتعة الفنية. وإذا وقفنا أمام نماذج من تلك المجموعة الغنائية لاستقراء عناصرها الفنية واستكناه قيمها الجديدة فأول ما يلفت الانتباه أغنية (دق القاع). فهذه الأغنية تميزت بصياغة لحنية رشيقة رشاقة كلماتها الغزلية. ورغم أن المقام المستخدم هنا هو الرست، إلا أن المعالجة اللحنية جعلت وقع هذا المقام على الأذن سلساً جداً. ويبدو أن هذه السلاسة ليست ناجحة فقط عن كون الأغنية بشكل عام مستوحاة من الموروث الشعبي، ولكن بالإضافة إلى ذلك فهذه السلاسة ناتجة عن طبيعة البناء اللحني الذي روعي فيه أن يكون موازياً في مضمونه الجمالي لنفس الدلالة الفكرية والجمالية للقصيدة "( ).
دُق القاع دُقه لا تمشي دلا
دق القاع دقه ما دامك حلا
واعطِ القلب حقه من دنيا السلا
* * *
واعمل لحسنك حرز خوف العيون
واحرز معك عقلي فحسنك جنون
فيك الحلا قد شن ماءه شنون
وأعطاك من فنه وسحره فنون
* * *
تمشي كأن الأرض لك لا سواك
وكبرياء الحسن تمشي معاك
ملَحَّن الخطوِ كأن في خُطاك
ترنيم مغنى من أغاني صباك
* * *
إشراقة الصبح وسحر الغروب
ولذة الغفران بعد الذنوب
ونشوة الحب وشوق القلوب
كم ارتوى منها صباك الطروب
* * *
شفّاف كالأنداء فوق الزهر
رَفّاف أحلى من نسيم السحر
مُضَوَّأ الحسن كأن القدر
أسقاك كأساً من شعاع القمر
* * *
يا بدر كم ذا قاسمتك البدور
تمامها عند انتصاف الشهور
فاعطِ زكاة الحسن واوفِ النذور
ما فاز باللذّات إلاّ الجسور
* * *
كم قَطَّر الوردُ الندى في فمك
والشمس كم أروى ضُحاها دمك
والحسن كم ضمَّك وكم لملمك
يهندس الفتنه على مبسمك
ويضيف الأستاذ جابر: " في أغنية (بكر غبش) يلاحظ قوة بروز العنصر الشعبي من حيث إن صياغة الأغنية تميزت بالبساطة والوضوح، ولكن تضمن - في نفس الوقت – ثراء نغمياً أفقياً نسبياً عكس بهذا الشكل أو ذاك ميل الفنان أيوب إلى البحث عن الجديد في الشكل الموسيقي، ولكن في إطار الهيكلية الغنائية الشعبية "( ).
بكر غبش في الطل والرشاشي *** بكر بكور قبل الطيور ماشي
حالي وسط ململم الحواشي *** أخضر من الله لا مطر ولا شيء
على الروابي تحت ظل الأشجار *** فوق المروج الخضر بين الأزهار
عند المراعي في ضفاف الأنهار *** ربى الهوى وشب في دمه نار
بكر غبش ساني القوام أهيف *** لا طارح الخنة ولا مشرشف
يسبي القلوب في نظرته ويخطف *** ساجي الرنا قلبي رفرف
بكر وعاد الطير وسط الأعشاش *** والفجر طالع بالشعاع رشاش
يمشي بخفة للنهود رعاش *** وخطوته فوق التراب أنقاش
بكر وطل الصباح ملء خده *** وفرحة الأحلام فوق نهده
والحقل يفتش له طري ورده *** وأنا وروحي والفؤاد بعده
أخضر تمخطر والنهار طالع *** يقسم النشوة على المزارع
لفت وسلم واستمر جازع *** وداعتك واحافظ الودايع
وأيضاً يضيف الأستاذ جابر: " في أغنية (الليل والنجم) يقدم الثنائي الفضول – أيوب، نموذجاً آخر لأسلوبهما الذي درجا عليه، وهو كتابة قصيدة أو مقطع منها على أحد الأوزان الشعرية الشعبية ثم أخذ نفس الجملة الموسيقية الشعبية أو استلهام مفرداتها اللحنية من الموروث الغنائي الشعبي في ربى الحجرية. ويأتي بعد ذلك إجراء التنويعات اللحنية الإيقاعية منها والنغمية على الجملة الموسيقية الأساسية. ويدل السياق الشعري والنغمي لـ(الليل والنجم) على أن الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان كتب المقطع الأول على وزن قصيدة شعبية. ويبدو أن اللحن الشعبي أخذ كما هو مع تدخل أيوبي أرزته المفردات النغمية والإيقاعية...، واللحن على كل حال فكرة موسيقية بسيطة، إلا أن شحنة وجد وألم وشوق للحبيب تكثفت فيها بشكل واضح "( ).
الليل والنجم وهمس النسيم *** يدري بأنّاتي وشوقي الأليم
وكل ما حولي بحبي عليم *** إلا الذي قلبي بحبه يهيم
* * *
ولّى وخلاني لوجدي
أبات في أحضان سهدي
واعيش بين الناس وحدي
* * *
ريح الصَّبا بالله لين المسير *** شاحملك مني السلام الكثير
لمن طوى أيام عيشي النظير *** في الهجر وأعطاني الفراق المرير
* * *
قد كنت شانسى كل غلبي
في الحب لو قد كان ربي
قَوَّى على النسيان قلبي
* * *
ريح الصَّبا هل عاد عيشي يطيب *** بعد الجفا والهجر بعد الحبيب
كم ضمنا صدر الغرام الرحيب *** وخالق القلبين كان الرقيب
* * *
واليوم نسى كل الذي كان
وأعطى من النسيان أكفان
للشوق والذكرى والأشجان
* * *
ريح الصَّبا لا أدري ماذا أقول *** شامشي طريق الصبر مهما يطول
وأزرع دموعي في ضفاف الغيول *** ورود حبٍ خالدٍ لا يزول
* * *
محال أن ينساه فكري
شاعيش في ذكراه عمري
وأنزل مع ذكراه قبري
وعن أغنية: (نجم الصباح) يقول البردوني: " أما أيوب طارش فتمتع بخامة مُلَحَّنة فأدّى صوته من كل طبقاته كلما يحسّ وكلما يوحي إلى سامعه، فَذَكَّر بالتراث بدون أن يكرره وظفر بشاعر خاص به هو عبد الله عبد الوهاب نعمان، الذي يعرف هندسة الكلمة الشعرية والذي يجيد تطويعها على قامة الصوت الغنائي؛ لأنه عرف خامة (أيوب) ففصَّل أغنياته على قامة صوت مغنيه، كما يوحي هذا المقطع:
نجـم الصبـاح، قل للصبـاح، إن لاح
قلبي جراح، ظلام مغلق، ما عليه مفتاح
فهذا التقطيع يتدرج من آخر مقدمة اللحن إلى اختتام الأغنية التي قطعها شاعرها متفاوتة القامات: (نجم الصباح) مستفعلان، (قل للصباح) مستفعلان، (إن لاح) فَعْلان.
والملحوظ أن التفعيلة الأولى على حجم التفعيلة الثانية على حين كانت الثالثة أقصر: (إن لاح)، وجاءت التفعيلة الرابعة من حجم التفعيلة الأولى (قلبي جراح)، ثم اختتم المقطع بكل ما في التفعيلات من طاقة صوتية: (ظلام مغلق ما عليه مفتاح)، فكان هذا الاختتام معبأ بعناصر سوابقه وبخصوصيته، فتفجَّر من كل الطبقات الصوتية فشكَّل انفجار نَفْسِهِ وما تَنَفْسَنّ فيه، وتتالت مقاطع القصيدة على هذا النحو الغنائي والمعد سلفاً للتغني، إلا أن (نعمان) لم يتبع هذه الطريقة في كل قصائده الغنائية "( ).
نجم الصباح قل للصباح إن لاح
قلبي جراح ظلام مغلق ما عليه مفتاح
إلا يد الخل الحبيب ذي راح
قال الوداع ودمعتي على القاع
أمره مطاع وكل عمري في هواه قد ضاع
يفديه عمري إن أجا وإن راح
ناسي هواك من علمك وأغواك
من ذي دهاك من الذي مَشَّاك فوق الاشواك
وكنت مريوش الجناح مرتاح
كنا سوا من للهوى سوانا
يوم ارتوى عمري وعمرك من ندى هوانا
أيام عشناها قلوب وارواح
واطرح معك على بقايا الحب ورد وازهار
ذكرى هوى عشناه كله افراح
ماء الغيول قل للسحاب كفّي
يكفي سيول دموع عيني يا غيول تكفي
فاطوي غيومك يا سحاب وارتاح
ومن روائعه الغنائية قصيدة: (من أجل عينك)، في إحدى الجلسات الأدبية بمنزل الشاعر الدكتور سلطان الصريمي، كان يدور بين الحاضرين موضوع شعر الفضول، فاسمعتهم بعض قصائده الغنائية، ومنها قصيدة (من أجل عينك) فلما وصلت إلى قوله:
إذا تبسمت اخفي من شجون الهوى *** أسمـع دموع القلب يتناطفين
قال الدكتور سلطان الصريمي: " أغبط الفضول على هذا البيت وأتمنى لو كنت قائلها ". واستمريت بقراءة القصيدة، وهي:
من أجل عينك واحبيب القلب شاكرم ألف عين
واصبر واداري قلوب قد حبين لكن نسين
من يوم زرعنا أمانينا ومن حينما الأشواق في قلبي وقلبك ربين
أصف وردي وأزهاري أغطي على ناري وهن من حرَّها يحرقين
إذا تبسمت اخفي من شجون الهوى أسمع دموع القلب يتناطفين
واشوف أن ابتساماتي يجيئين من روحي وهن من حزنها يستحين
كم يا قلوب اعطت لأشواقنا حنانها كم ذا علينا بكين
دموعهن قد رافقين دمعنا يجرين ولكن دمعنا يُعْرفين
إذا بقين في العين ضاقين بالفرقه وإن سالين يتعانقين
للحب أعشاش في قلبي وفيها المنى عاشين والاحلام قد عشعشين
وكلّما طفت في حسِّي وفي خاطري قامين يطلين من قلبي ويتخاوصين
مثل العصافير ظمآنات لا ماء يرويهن ولا أفياء يتظللين
يدورنّك يريدنّك يهيمين وراء طيفك وكم هامين وكم دَوَّرين
أسقيتهن من غمام الفجر قالين لي لا الفجر يروي ولا قطر الندى ينفعين
واعطيتهن من رحيق الورد كل الذي في الورد فاستعصين أن يشربين
صامين حتى يلاقنَّك بكل الظما ويشربنَّك وما ظنَّيتهن يرتوين
طال الظما في فؤادينا وأكبادنا عاشين من أحراقهن يرجفين
واحنا حبيبين أعطتنا مقاديرنا للملتقى وعد والأقدار لا يكذبين
ألستم معي أن هذه القصيدة من يمر عليها يلقى نفسه محاطاً بجوها فيعيش شعور الفضول وانفعالاته، ويكتشف تجربته - بما يجد لديه من وسائل الفهم والإدراك - فلا يجد بداً إلا أن يستجلي وجدانه ويندمج في أجوائه يتجسد شخصيته ويذوب في تواجده فيحلق في فضائه ويتمثل لحظات انفعالاته حقيقة، ويغيب في وجوده الشعوري بكل ما فيه من مؤثرات، وربما كان تأثره أكثر من الشاعر الفضول ذاته لاسيما إن سمعها من صوت أيوب طارش ووجدها توافق هواه وتعبر عما في نفسه وبما يحيط به من أجواء.
في إحدى الجلسات الفنية مع الفنان القدير أيوب طارش، قلت له: لحنت وغنيت كثيراً من القصائد الغنائية الجميلة لعدد من الشعراء وأبدعت فيها جميعاً لحناً وأداءاً، ولا شك أن لكل قصيدة عندك نشوتها ومذاقها الخاص ونكهتها المميزة، وكونك قد ارتبطت بالشاعر الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان، المشهور بالفضول، وغنيت من شعره ما يزيد عن 40 قصيدة بين أغنية وأنشودة، وهي من أجمل ما شدوت به خلال مسيرتك الفنية وحتى الآن.
السؤال: هل تفاعلك مع قصائد الفضول كقصائد غيره من الشعراء الذين غنيت لهم؟ وهل تشعر بفرق بينها أثناء أدائك لها؟
فقال: قصائد الفضول عندما أغنيها أصل إلى نهايتها وأنا أشعر أنني في الذروة وقمة النشوة، ولو أعدت الأغنية مراراً لا أشعر بالملل، خلاف قصائد غيره.
واسمعوا قصيدة: (مدارب السيل) وفيها أجمل ما حفلت به الطبيعة استخدمه الفضول أفضل استخدام:
مكانني ظمآن
شق الظما قلبي وأشعل في عروقي الدما
والشوق لا يطفيه شنَّان ماء
والحب لا يرويه ماء السما
مدارب السيل قولي وامدارب لما
لا يقدر السيل أن يروي القلوب الظما
مهما مسيلك سال دافق ومن
صدور ضاحات الجبال ارتمى
مكانني ظمآن
* * *
واغاديه فوق الربى والهضاب
سحاب نفسي ظامئه وا سحاب
وأنت تروي من سيولك شعاب
وانا معاهن استقي
إنَّما مكانني ظمآن
* * *
أقاسم الطير في الأعشاش ضوء البكور
واشرب كؤوسي من الإصباح إشعاع نور
والُف بالأنداء روحي
وكم قد نمت في حضن الغمام
إنَّما مكانني ظمآن
* * *
كم سرت في وديان خضرا رطاب
قد أرتوت سُقيا وداخت شراب
واشرب مع الوديان هطل الضباب
وانام في افيائها إنَّما..
مكانني ظمآن
* * *
خمائل الورد كم يا ورد كم يا ندى
أعطيت قلبي ولكن ما ارتوى لي صدى
ما زلت أنا عطشان ضامي وقد
شربت حتى الظل لكنَّما..
مكانني ظمآن
* * *
آوي إلى خصب المروج الخصاب
في صدرها النامي وفير الشباب
وما دعيت الغيث إلا استجاب
لكنّ مهما الغيث فوقي هما..
مكانني ظمآن
والقصيدة التي على هذه الهيئة لاشك تظل نابضة بالحياة عامرة بالحيوية إلى أن يشاء الله. هذه القصيدة تستحق أن يطلق عليها شعرا، ولا يخامرني الشك أن القارئ إذا دخل عليها بالطريقة الصحيحة سوف تشيع لديه جواً من الانتعاش والحيوية، فتحيله إلى روح حالمة محلقة في فضاء الإيحاءات، تحمل بين جوانحها وجنباتها أجل وأسمى ما حفلت به الحياة من الحب والجمال.
وفي جلسة أخرى مع الفنان أيوب قلت له: لحنت وغنيت لشعراء كثيرين غير الفضول، بما في ذلك أغاني الزفة، التي لحنت وغنيت ثلاث منها من كلمات الفضول، وهي: (رشو عطور الكاذية) و(وا صبايا وا ملاح) و(هنوا لقلبي)، وكوني أحد المحبين لأغانيك والمعجبين بها لا سيما التي كتبها الفضول، وكأي متذوق فإني أصنفها كالآتي:
الأولى (رشو عطور الكاذية)، أعتقد أنها عامة لم يكتبها الفضول عن تجربة شعورية. والثانية (وا صبايا وا ملاح)، أعتقد أنها خاصة كتبها عن تجربة تهيئة لمناسبة زواجه. والثالثة (هنوا لقلبي) أعتقد أنها أكثر خصوصية كتبها ليوم زفافه. فهل تقييمي صحيحاً؟
فقال الفنان أيوب: هل أنت باحث؟
قلت: لا، وإنما متذوق ولي محاولات في الشعر.
فقال: لقد أصبت عين الحقيقة، فالقصيدة الأولى أعطيت له بيتاً شعرياً وطلبت منه أن يكتب زفة على غرارها فوافق وكتبها. أما الثانية فكتبها قبل زواجه بفترة. أما الثالثة فكتبها ليوم زفافه وغنيتها في ذات المناسبة، وكان غالباً كلما ذهبت إلى منزله يطلب مني أن أغنيها.
وا صبايا وا ملاح هيا أقطفين لي مشاقر
وارصفين لي الورود الحمر وسط المزاهر
واطرحين الكواذي البيض بين المباخر
لحبيبي هو حبيب القلب أول وآخر
* * *
وأعملين لي كبوش الفل مفرش منقش
بالعطور بالندى مبلول مسقى مرشرش
فرحتي فرحة الطائر رأى الفجر غبش
ضيف قلبي أتى عندي مُقيل وسامر
* * *
صوت قلبي يغني لي اسمعين صوت قلبي
والمغاني الملاح يأتين من أجل حبي
والحبيب تحت ضوء الحسن منصت بجنبي
سحر عينيه وا صبايا قد غلب ألف ساحر
* * *
يا قمر يا نجوم يا شمس بالله غيبي
لفلفي ضوءك من الدنيا ويكفي حبيبي
ليت كل القلوب يا ناس كانت قلوبي
ربما يوسعين حبي فهو بحر زاخر
هنوا لقلبي
هنوا لقلبي عند قلبي ضيوف *** وصفقوا حتى تدموا الكفوف
وباركوا حبي وقوموا وقوف *** هنوا لقلبي عند قلبي ضيوف
دما فؤادي وأحلامي بكت والمنى *** هامت وما لاقيت قلباً رؤوف
وعشت أيام كنت اطمع بقطر الندى *** على ظمأ قلب المحب الشغوف
وكان تبخل بها الدنيا ولكن أتت *** أقدار أسقتني الأماني غروف
حبيبي أشهى من لذيذ المنى *** روحه وأصفى من شعاع السيوف
أحلام قلبينا وأشواقنا *** صفوف من حولي تعانق صفوف
جاءت معه ضيفان تفرح لنا *** وتملأ الدنيا بأحلى الزفوف
في هيبة الملك ملك الحسن يمشي على *** عمري وأيامي حيارى تشوف
يتفرجين كيف صنع الله كيف الهوى *** يعطي النفوس المحبة من جماله صنوف
كعبه من الحسن قلبي كم إليها هفى *** كم حجَّها كم عاش فيها يطوف
وشمس قد هندست روحي لها *** أبراج لا يأتي عليها كسوف
أضواؤها ملء آفاقي كأن الضحى *** ملكي ألفه وسط روحي لفوف
ومن روائعه كذلك قصيدة: (لك أيامي) وهي من أجمل ما كتب الفضول من الشعر الرومانسي.
لك أيامي وشوقي وحنيني لك آهات فؤادي وشجوني
أنت روحي أنت ما لملمته من مُنى العمر وأحلام السنينِ
* * *
عشت دنيا أنت فيها حلمي
في أحاسيسي وفي نبض دمي
لا أرى بعدك إلا عدمي
* * *
يا حبيبي لن نتوب ليس في الحب ذنوب
بيننا عهد قلوب عهد عَلاَّم الغيوب
* * *
لم يعد سراً هوانا أو تخفي
ألف قلب لهوانا ليس تكفي
فارحمينا ألسن الناس وكُفي
* * *
حبنا أكبر منا وهوانا ليس يفنى
أبداً حتى لو انَّا نحن أبعدناه عنا
* * *
حبنا ما تاه في الإثم ولا ضل
حبنا حكم من الأقدار مرسل
حبنا قرآن قلبينا المرتل
* * *
ليس في أيام بُعدي عنك إلا حسراتي
أنها تأتي يتيمات كأيام وفاتي
وبها وحشة قبري ولها صمت رفاتي
بدء أيام فؤادي الباسماتِ
وضحى عمري وأشواق حياتي
ليس ما مر ولكن ما سيأتي
يوم ألقاك فألقى أمنياتي
لا شك أن لكل قصيدة موضوعها ولكل شاعر موقفه في التعبير عن معانيه وعواطفه. وبين الموضوع والموقف رباط وثيق لا تنفصم عراه، ولا تنفكّ عقدته، ويكون هو المؤثر والدافع للكتابة، ولشاعرنا الفضول مواقف من هذا السبيل.
فقصيدة (بردان) التي غناها الفنان عبد الباسط قيل عن قصة كتابتها، إن الفضول كان في صنعاء وكان الفصل شتاءاً، فاتصل بأسرته وسألوه عن حاله، فقال: بردان، وبعد انتهاء المكالمة كتب أغنية (بردان)، فكان هذا الموقف هو الدافع لكتابتها.
وقيل إن قصة أغنية (هات لي قلبك)، أن إحدى زوجاته قالت له أثناء تخزينه، هات لي، أي قات، فقال لها: ماذا، قالت: هات لي قلبك، فكان هذا الموقف هو الدافع لكتابتها.
وبالنسبة لهذه الأغنية لي وجهة نظر، قد أكون موفقاً فيها أو مخطئاً، فالقصيدة جيدة ولحنها جميل، ووجهة نظري لن تقلل من قيمتها ولن تغير من الأمر شيئاً، فلا يضير إن قلتها، ذلك أن الأدب عامة والشعر على وجه الخصوص لا يخضع لقوالب جامدة ولا يتقيد بقواعد ثابتة، وكل شيء جائز فيه. في رأيي أن المحبين يتحدان في المشاعر والأحاسيس إلى درجة أن يصبح لهما قلب واحد، بحيث لا يستطيع أي منهما أن يتصرف به حسب رغبته أو يبادله بقلب آخر تبعاً لهواه، وفي هذا الشأن أبديت وجهة نظري القاصرة بمحاولة شعرية غنائية، منها:
لا شَشُل قَلبَكْ ولا شَعطيك قلبي
قلب واحِدْ بيننا الإثنينْ يَنبض فيه حُبّي
هُو رَبَطني بَكْ وخَلَّكْ تَرتَبِطْ بي
وانت قاصِدْ تَشطره نِصفَينْ تَخلُفْ خَلق رَبّي
وهذه المحاولة لا ترقى إلى مستوى قصيدة الفضول ولا بمقدار معشارها.
فكما كان الفضول مبدعاً في صياغة قصائده لغة وأسلوباً، صوراً وإيقاعاً، ومُجيداً في انتقاء مواضيعه، ودقيقاً في تحديد رؤاه، وصريحاً في طرح أفكاره، كان كذلك ذواقاً في اختيار الشعر الذي يصلح للغناء والطرب، فإذا وجد قصيدة وأعجبته أشاد بها وأعطاها لأي من الفنانين الذين تعامل معهم ليلحنها ويغنيها، ومن ذلك كما قيل، قصيدة الشاعر علي عبد الرحمن جحاف (عليل أمهوى)، والتي أجاد الفنان أيوب طارش في تلحينها وأدائها، حتى لكأنك حين تسمعها تشتمّ منها النكهة التهامية. وفي نفس الوقت إذا سمع لحناً جميلاً ولم تعجبه كلمات القصيدة، يكتب على غرارها قصيدة تتسق مع اللحن الذي أعجبه ويعطيها ذات الفنان ليركب لحنه عليها ويغنيها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أخبرني الفنان أيوب طارش في إحدى الجلسات أنه بعد لقائه بالفضول وسمع منه عدداً من قصائده أسمعه أغنية مطلعها:
(الأخضري خضر من الرشاشي.... أخضر من الله لا مطر ولا شي)
فأعجبه اللحن، ولم يستسغ كلمات الأغنية، فكتب قصيدة (بكر غبش) وقال لأيوب غَنِّ هذه باللحن الذي سمعته منك.
وأغنية أخرى قال أيوب إنه غناها للفضول، وكلماتها تقول: (يا خو القمر شلوك قبال عيني)، فكتب قصيدة (طال الفراق)، وأعطاها لأيوب ليغنيها بذات اللحن.
وفي إحدى الجلسات مع الفنان عبد الباسط عبسي قال إنه أسمع الفضول أغنية تقول كلماتها: (شاجي معك وا بتول) فأعجبه اللحن ولم يستسغ الكلمات، فكتب قصيدة على نفس الوزن والقافية، وهي (حسنك لعب بالعقول) وأعطاها له فغناها بذات اللحن.
حسنك لعب بالعقول *** وانا مرَوَّحْ ضحيه
عنَّك حديثي يطول *** فاسمع حديثي شويه
شلت ترابي السيول *** وراح زرعي عشيه
وأنا معك في ذهول *** أمشي على حسن نيه
مدريش ماذا تقول *** عيونك البابليه
وأسمع رنين الحجول *** مثل الأغاني الشجيه
وحليتك عقد لول *** وقامتك يافعيه
وتحت نحرك حمول *** فواكهه مستويه
تبقى بكل الفصول *** ملآن صدرك طريه
هات الشهود العدول *** شاقول آخر وصيِّه
شاموت ساكت خجول *** وافوت من غير ديَّه
أما أناشيده الوطنية فقد توجت بنشيد: (رددي أيتها الدنيا نشيدي) وهو أول نشيد وطني منظوم في اليمن، اختير بداية في الشطر الجنوبي في النصف الثاني من السبعينيات ثم أقر في قمة الكويت من قبل الرئيسين عبد الفتاح إسماعيل وعلي عبد الله صالح أن يكون نشيداً وطنياً لليمن الموحد، واعتمد رسمياً بعد إعلان الوحدة في عام 1990م.
أما عن السلام الوطني في الشمال، ففي فجر يوم ثورة 26 سبتمبر 1962م بدأت الإذاعة إرسالها بأنشودة: (الله أكبر) واختتمته به، بدلاً عن السلام الملكي: (رعى الله دوماً إمام اليمن)، ثم تغير إلى سلام آخر ثم آخر، وبعد شهور من قيام الثورة كلف المقدم علي اليتيم بإعداد سلام جمهوري يمني ينهي حالة الفوضى السلامية فأعد اليتيم بالتعاون مع بعض الموسيقيين العرب السلام الجمهوري فجاء توليفة مرقعة من هنا وهناك من تركيا والبلقان... الخ( ). هذا ما جاء في كلام الدكتور عبد العزيز المقالح.
أما البردوني فيقول: إن الثوار لم يجدوا نشيداً وطنياً منظوماً فاختاروا موسيقا أنشودة محمد عبد الوهاب (يا إلهي انتصرنا بقدرتك) فظلت موسيقاها هي النشيد الوطني للجمهورية العربية اليمنية من قيام الثورة إلى 1979م، فحلت محلها أنشودة علي الآنسي (قسماً برب العزة) شعر أحمد العماري... وإذا كان ثم ملاحظة للأصلح، فإن أنشودة (أيوب طارش) أكثر صلاحية لاشتمالها على شروط النشيد الوطني، من خلفية تاريخية وتصوير وجهة سياسية وقيم أخلاقية وطنية، كما يبرهن أهم أجزائها:
يا بلادي نحن أبناءُ وأحفادُ رجالك
سوف نحمي كل ما بين يدينا من جلالك
وسيبقى خالد الضوء على كل المسالك
كل صخر في جبالك
كل ذرات رمالك
كل أنداء ظلالك
في جنوبٍ وجدت أو في شمالك ملكنا..
إنها ملك أمانينا الكبيرة حقنا..
جاء من أمجاد ماضيك المثيرة
يكتنز هذا المقطع الحفاظ الوطني بكل أمانة وبكل واجبات البنوَّة الوطنية للأبوَّة التاريخية، هذه هي الوجهة السياسية أمّا الخلفية التاريخية فتكمن في الأشطار الأخيرة:
سوف نحمي كل ما بين يدينا من جلالك
وسيبقى خالد الضوء على كل المسالك
كل صخر في جبالك
كل ذرات رمالك
كل أنداء ظلالك
في جنوبٍ وجدت أو في شمالك ملكنا..
إنها ملك أمانينا الكبيرة حقنا..
فهذا الامتلاك الوطني من تراث تاريخ هذه البلاد:
جاء من أمجاد ماضيك المثيرة
أمّا الوجهة الأخلاقية والسلوك القويم فتتضمنها الأبيات المبتورة من النشيد (بعد الوحدة):
قد قهرنا الموت للموت اقتحاما *** قد بهرنا الخير بالخير التزاما
وهذا المقطع مبعد عن النشيد المقر للجمهورية اليمنية( ).
وعن حسن اختيار الفنان أيوب طارش للأناشيد الوطنية التي لحنها وعناها، يقول الأستاذ جابر علي أحمد: " أن الفنان أيوب طارش تمكن بشيء من الدهاء والكياسة من ناحية وبما يحاط به من حب الناس من ناحية ثانية، تمكن في أغلب الحالات من أن يفرض اختياره ويقدم درراً من الأناشيد الوطنية الداعية إلى التمسك بأهداف الثورة اليمنية والممجدة لقيم الحق والخير والعدل في الحياة الاجتماعية والنائية عن الاسفاف الناجم عن الرياء والتزلف والنفاق وكافة المظاهر الاجتماعية المنحرفة التي تحركها السياسات الاستبدادية والمنافع الذاتية الضيقة. وأنا إذ أتحدث عن هذا الجانب من نشاط فناننا لواثق بأن أناشيده الوطنية لا تزال حية في وجدان المجتمع ولا يزال رنينها يشد إليه الانتباه. ولهذا لا أجدني في حاجة إلى استعراض كل أناشيده، وسأكتفي بالتوقف عند إحداها، إنها أنشودة (رددي) من كلمات الأستاذ الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، علماً بأن أسلوب معالجته لهذه الأنشودة ينطبق على كل أناشيده تقريباً "( ).
في إحدى الجلسات مع الفنان أيوب طارش سألته عن قصة النشيد الوطني، فقال: كنت في العاصمة المصرية القاهرة أدرس في مجال الفن عندما كتب الفضول كلمات النشيد (رددي)، وكان قد سلمها لأحد القادة العسكريين – ربما يقصد: عبد الله عبد العالم – وسلمها بدوره للفنان السنيدار فقام بتلحينها، ولم أكن أعلم ذلك. وبعد عودتي إلى اليمن ألتقيت الفضول وسلمني القصيدة فأعجبتني جداً وشرعت بتلحينها وصارت شاغلي استولت على تفكيري وفني لفترة، فلا أنام ولا أصحو إلا عليها، وكنت أشعر أنها تتغلغل في حسي وتدور في خاطري في هجوعي ويقظتي، وأرى أني ألحنها وأنا في فراش نومي، وهكذا.
وبعد مدة أكملت تلحينها الأولي وسجلته وبعثت به إلى الفضول فأبدى إعجابه وقبوله باللحن، وأبلغني بذلك مع بعض الملاحظات. فأتممت اللحن قبل عيد الثورة، وكان حينها يتم إظهار كل جديد في الفن لا سيما الأناشيد الوطنية في الاحتفالات التي تقام بذكرى 26 سبتمبر، وقبل أن تغنى في الحفل تسجل في التلفزيون، فتوجهت إلى التلفزيون وسألني المعنيون عن الأنشودة التي أريد تسجيلها، فقلت لهم (رددي أيتها الدنيا نشيدي) للشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، فقيل لي: قد سبقك بتسجيلها الفنان أحمد السنيدار، فتفاجأت؛ لأني لم أكن أعرف أنها سلمت لآخر. ورجعت مكسور الخاطر.
وظللت في صنعاء، وفي يوم عيد 26 سبتمبر جاءني اتصال تلفوني، وطلب مني أن أتوجه فوراً مع الفرقة إلى منزل الغشمي في ضلاع همدان حيث كان الرئيس الحمدي ويريد حضوري دون تأخير، فتوجهت من ساعتي إلى هناك ودخلت المقيل وفيه الحمدي وعدد كبير من رجال الدولة مدنيين وعسكريين، وبعد جلوسي سألني الرئيس عن الأنشودة التي لم أتمكن من تسجيلها في التلفزيون، فأخبرته عنها وطلب مني أداءها أمامه في ذات المجلس، ففعلت ذلك فلم يعلق بشيء، واستمر المقيل حتى حان وقت خروج الجميع والتوجه إلى المكان المعد للاحتفال الفني بعيد الثورة. وتوجهت أنا إلى البيت الذي أنزل فيه، وفي الليل جاءني اتصال تلفوني، وقيل لي إن الرئيس الحمدي يقول لك: تحرك مع فرقتك إلى تعز وسوف تغني أنشودتك غداً في الحفل الذي سيقام في المنتزه بحضوره. فتحركت إلى تعز وغنيت الأنشودة في الحفل المذكور، ومن هناك ظهرت أنشودة (رددي) وانتشرت واشتهرت.
وبعد سنوات كنت وبعض الفنانين من الشمال في مدينة عدن للمشاركة باحتفالات عيد ثورة أكتوبر، وأثناء تواجدنا في المعهد الموسيقي لعمل بروفات زارنا الرئيس علي ناصر محمد، ثم دعاني للجلوس معه، وطلب مني أن اختار بعض مقاطع من أنشودة (رددي) لتكون سلاماً وطنياً للجنوب، كوني ملحناً لها. فأبديت استعدادي. وبعد مدة من هذا اللقاء كنت قد هيأت نفسي للبدء باختيار المقاطع المطلوبة سمعت خبر وفاة الشاعر الفضول فتركت ما بدأته، وانكفأت في حزني على صديقي ورفيق مشواري الفني، فتم اختيار المقاطع المطلوبة من قبل المعهد الموسيقي بعدن.
رددي أيتها الدنيا نشيدي*** ردديه وأعيدي وأعيدي
واذكري في فرحتي كل شهيدِ *** وامنحيه حللاً من ضوء عيدي
* * *
كم شهيد من ثرى قبر يُطلُ *** ليرى ما قد سقى بالدم غرسه
ويرى جيلاً رشيداً لا يضل *** للفداء الضخم قد هيّأ نفسه
ويرى الهامات منّا كيف تعلو *** في ضحى اليوم الذي أطلع شمسه
يا بلادي.. يا بلادي.. يا بلادي
يا بلادي نحن أبناءُ وأحفادُ رجالك
سوف نحمي كل ما بين يدينا من جلالك
وسيبقى خالد الضوء على كل المسالك
كل صخر في جبالك
كل ذرات رمالك
كل أنداء ظلالك
في جنوبٍ وجدت أو في شمالك... ملكنا
إنها ملك أمانينا الكبيرة... حقنا
جاء من أمجاد ماضيك المثيرة... إرثنا
في سيوف زارت الدنيا مغيرة
* * *
في خطى الواثق تمشي قدمي
مثل سيل وسط ليل يرتمي
هي أرضي زرعت لي في فمي
بسمة الخير وناب الضيغمِ
وهو إيماني يؤاخي في دمي
فرحة النصر وحزن المأتم
فوجودي ليس يخشى عدمي
* * *
بالبناء والسلام قد بهرنا الخير بالخير التزاما
بالفناء والحِمام قد قهرنا الموت للموت اقتحاما
بالوفاء والذمام نحن أوفى الناس للناس ذماما
* * *
سوف تبقى في مدى الأيام أخلاقنا زاهية لن تَخلقا
وسيبقى وجُهك المشرق يا وطني بالضوء منا مشرقا
وسيبقى قاهر الشعب على وجه ارضي عدماً لن يُخلقا
ليس منا أبداً من مزقا
ليس منا أبداً من فرّقا
ليس منا من يسكب النار في أزهارنا كي تحرقا
* * *
وحدتي...
يا نشيداً رائعاً يملأ نفسي
أنت عهد عالق في كل ذمه
أمتي...
امنحيني البأس يا مصدر بأسي
واذخريني لك يا أكرم أمه
رايتي...
يا نسيجاً حكته من كل شمس
اخلدي خافقة في كل قمه
* * *
عشت إيماني وحبي أمميا
ومسيري فوق دربي عربيا
وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا
المحاضر: سلطان نعمان البركاني
ألقيت المحاضرة في: 9 نوفمبر 2013م
تسلم يدك علىالمحاضرة الجميلة
ردحذفجميل جداً
ردحذفشكرا جزيلا لكم على ما بذلتموه من جهود في سبيل ايصال هذا الكم من الثقافة لنا.